لما دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس وقمع هذه الثورات بدأ يفكر فيما هو بعد ذلك.
أولاً: اهتم بالأمور الداخلية في أرض الأندلس اهتماماً كبيراً جداً، فبدأ بإنشاء جيش قوي، واعتمد فيه على ما يلي: أولاً: اعتمد على أهل البلاد الملقبين بالمولدين؛ فإن عموم أهل الأندلس كانوا من أهل الأندلس الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام وأحبوا عقيدته، فـ عبد الرحمن الداخل لما رأى أن غالب الشعب من أهل الأندلس أنفسهم اعتمد في جيشه عليهم.
ثانياً: اعتمد في جيشه على كل الفصائل والقبائل الموجودة في أرض الأندلس، وضم إليه كل الفصائل المضرية سواء من بني أمية أو من غير بني أمية، كما ضم إليه كل فصائل البربر، وهم قبائل كثيرة جداً، وكان يضم رءوس القوم حتى يؤثروا في أقوامهم، بل إنه ضم إليه اليمانية، مع علمه أن أبا الصباح اليحصبي يدبر له مكيدة، وصبر عليهم صبراً طويلاً حتى تمكن من الأمور تماماً، ثم تخلص منه بعد (11) سنة كاملة من توليه الحكم في البلاد.
وكان في جيش عبد الرحمن الداخل رحمه الله الصقالبة، وهم أطفال نصارى اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوروبا ورباهم تربية إسلامية عسكرية صحيحة منذ أن اشتراهم، وليس في أفكارهم أي فكر أو اتجاه معين أو دين معين، فرباهم على الإسلام التربية الكاملة الشاملة، من حيث صحة العقيدة وصحة العبادات وصحة الفهم، والجهاد في سبيل الله، لذلك كان هؤلاء عماد الجيش عند عبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده من خلفاء وأمراء بني أمية.
وصل تعداد الجيش الإسلامي في أواخر عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله إلى مائة ألف فارس غير الرجالة، فهذا جيش ضخم جداً، على الرغم من أنه دخل البلاد وحيداً.
ثالثاً: اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله اهتماماً كبيراً بالجانب الديني ونشر العلم وتوقير العلماء، واهتم بالقضاء وبالحسبة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم أعماله أنه بنى مسجد قرطبة الكبير، وأنفق على بنائه ثمانين ألفاً من الدنانير الذهبية، وتنافس الخلفاء من بعده في زيادة حجمه حتى اكتمل بناؤه على مدى عهد ثمانية من خلفاء بني أمية.
رابعاً: اهتم كثيراً بالإنشاء والتعمير وبناء الحصون والقلاع والقناطر، وربط أول الأندلس بآخرها؛ وأنشأ أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس، وأنشأ الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وأنشأها على غرار الرصافة التي كانت موجودة في الشام، والتي أنشأها جده هشام بن عبد الملك رحمه الله، وأتى لها بالثمار العجيبة من كل بلاد العالم، فإن نجحت زراعتها فإنها ما تلبث أن تنتشر في بلاد الأندلس جميعاً.
خامساً: كان عبد الرحمن الداخل رحمه الله يعلم أن الخطر الحقيقي من قبل دولة ليون في الشمال الغربي من بلاد الأندلس، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فبدأ هذا الرجل العجيب في تنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشاً ثابتة في هذه الثغور الملاقية لهذه البلاد النصرانية، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأعلى، وهو ثغر سرقسطة في الشمال الشرقي مواجهاً لفرنسا، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأوسط، ويشمل مدينة سالم ويمتد حتى طليطلة، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأدنى، وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
وكانت له عادة عظيمة جداً تعلمها من أجداده وآبائه في بلاد الشام، وهي عادة الجهاد المستمر بصورة منتظمة ودائمة في كل عام، حيث كانوا يجاهدون في الصيف حين يذوب الجليد، وكانت الجيوش تسمى الصوائف، كانت تخرج إلى الشمال كل عام لهدف الإرباك الدائم للعدو، وهذا ما يسمونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.
وقد جعل الصوائف أمراً ثابتاً يتناوب عليه كبار قواد الجيش كل عام.
سادساً: كان رحمه الله كبير الاهتمام بالجيش، فقد كان يقسم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يعطيه بكامله للجيش، والقسم الثاني: لأمور الدولة العامة، من مؤن ومعمار ومرتبات ومشاريع وغير ذلك، والقسم الثالث: يدخره لنوائب الزمان غير المتوقعة.
اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله أيضاً بإنشاء دور الأسلحة؛ فأنشأ مصانع للسيوف، وللمنجنيق، وأشهرها مصانع طليطلة وبرديل.
سابعاً: اهتم أيضاً رحمه الله بإنشاء أسطول بحري قوي، وإنشاء أكثر من ميناء، وفي عهده تم إنشاء ميناء طرطوشة وألمارية وإشبيلية وبرشلونة وغيرها من الموانئ.
يقول المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية.