كان موسى بن نصير رحمه الله يريد أن يفتح منطقة الصخرة، لكن وصلته رسالة من دمشق من الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك الوقت، يطلب منه ومن طارق بن زياد أن يعودا إلى دمشق ولا يستكملا الفتح، فحزن موسى بن نصير حزناً شديداً لهذا الطلب؛ لأنه لم يكمل الفتح، وكان رأي الوليد بن عبد الملك أن المسلمين قد توغلوا كثيراً في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي رحمه الله أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في تلك البلاد فهي قليلة، فلا يريد أن يتوغل المسلمون أكثر من ذلك.
وهناك أمر آخر وهو صحيح: وهو أن سبب إصرار الوليد بن عبد الملك على استجلاب موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، هو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير رحمه الله يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا، حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب، فإن مدينة القسطنطينية كانت قد استعصت على المسلمين من الشرق، فإن جيوش الدولة الأموية لم تستطع أن تفتحها.
وفعلاً فإن موسى بن نصير هذا الرجل العجيب كان يفكر في أن يخوض كل بلاد أوروبا؛ فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم تركيا حتى يصل إلى القسطنطينية، فيفتحها من الغرب، ويتوغل بكل هذا الجيش الإسلامي في هذا العمق العجيب في قارة أوروبا، منقطعاً عن كل مدد، وهذا أمر أرعب الوليد بن عبد الملك، فإن هذا الجيش لو احتاج إلى مدد، فإنه سيحتاج إلى شهور، بل وسنوات حتى يصله هذا المدد، لما يفصل بينها وبين المسلمين من مسافات ضخمة من بحار وجبال وأراض واسعة، وخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة.
وقد كان موسى بن نصير يبلغ من العمر (75) سنة، فهو شيخ كبير، ومع ذلك كان يركب الخيول ويجاهد في سبيل الله، ويفتح المدينة تلو المدنية ويحاصر إشبيلية شهوراً، ثم يحاصر مردا شهوراً، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي، ثم يتجه إلى الشمال الغربي ويحاصر الصخرة، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها، حتى يصل إلى القسطنطينية، فأي همة عند هذا الشيخ الكبير موسى بن نصير؟ أما في زماننا فإن من بلغ هذا السن فإنه يصبح مقعداً غير عامل في المجتمع، ويعتبر أن رسالته قد انتهت، فمن لتعليم الأجيال، ولتوريث الخبرات، ولتصحيح المفاهيم؟ إذاً: حزن موسى بن نصير حزناً شديداً على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه لأرض الجهاد، فقد كان متشوقاً جداً إلى الجهاد؛ ولأن الصخرة التي في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد؛ ولأنه لم يستكمل فتح القسطنطينية من قبل الغرب، ثم لم يجد إلا أن يسمع ويطيع للوليد بن عبد الملك رحمه الله، فقطع المسافات الطويلة في شهور حتى وصل إلى دمشق، وهناك وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، وما هي إلا ثلاثة أيام ومات الوليد بن عبد الملك رحمه الله، وتولى الخلافة من بعده سليمان بن عبد الملك والذي كان على فكر أخيه؛ فقد رفض أن يعيد موسى بن نصير خشية أن يستكمل الفتوح داخل بلاد أوروبا ويصل إلى القسطنطينية في حركة عسكرية قد تؤدي إلى هلاك الجيش الإسلامي، فأبقاه عنده في دمشق، وأبقى طارق بن زياد كذلك.
وبعدها بعام ذهب سليمان بن عبد الملك إلى مكة للحج، فـ موسى بن نصير اشتاق للحج، لأنه منذ سنوات طويلة وهو في أرض الجهاد، يفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام أكثر من عشر سنين، فتشوق للحج فرافق سليمان بن عبد الملك إلى الحج في عام (97) من الهجرة، وفي طريقه إلى هناك قال: اللهم إن كنت تريد لي الحياة، فأعدني إلى أرض الجهاد وأمتني على الشهادة، وإن كنت تريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحج ثم سافر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات فيها.
فهذا حال القلوب الموصولة برب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا من حسن الخواتيم، فقد وصل إلى هذه المرتبة العظيمة بحيث يدعو ربه سبحانه وتعالى فيستجيب لدعائه، فيموت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدفن هناك مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه همة عظيمة جداً، فهو نبراس لكل المسلمين.
الأمر اللافت للنظر في التاريخ أن طارق بن زياد رحمه الله انقطعت أخباره بالكلية عند هذه المرحلة، فقد عاد إلى دمشق مع موسى بن نصير، لكن لا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى بلاد الأندلس، أم أنه بقي في بلاد دمشق؟ وإن كان هناك بعض الروايات التي لا يثق المؤرخون من صحتها أنه قد مات في عام 102 من الهجرة، يعني بعد هذا الرجوع بحوالي بخمس أو ست سنوات، لك