بعد وفاة المنصور قامت من جديد ثورات بني غانية المؤيدة لدولة المرابطين السابقة، فحدثت خلخلة في داخل الدولة الإسلامية، فوجه الناصر لدين الله جل طاقته لمحاربتهم في صولات وجولات كثيرة حتى أخمدها تماماً في سنة (604هـ)، أي: أنها استمرت تسع سنوات كاملة من حكمه، وفي هذه الأثناء تجدد الأمل من جديد عند الفونسو الثامن، وحرص على تجهيز العدة لرد الاعتبار، وأقسم ألا يقرب النساء ولا يركب فرساً ولا بغلاً وأن ينكس الصليب حتى يأخذ بثأره من المسلمين، وأخذ يعد العدة ويجهز الجيوش ويعقد الأحلاف، ويعد الحصون تمهيداً لحرب جديدة مع المسلمين ثم خالف العهد والهدنة وهجم على بلاد المسلمين، قبل انتهاء الهدنة والمعاهدة التي عقدها معه المنصور قبل موته، وحرق الزروع ونهب القرى وقتل العزل من المسلمين.
وكان هذا بداية حرب جديدة من الصليبيين ضد المسلمين، بينما المسلمون كانوا قد أنهكوا في رد الثورات المتتالية لبني غانية في داخل دولة الموحدين، أضف إلى ذلك أن القيادة ليست بكفاءة السابقين من قادة الموحدين، وكان عند الناصر لدين الله العيب الذي كان في أجداده وكان في أشياخ الموحدين وهو مخالفة الشورى، بخلاف أبيه، فهو الوحيد من قادة الموحدين الذي اهتم بالشورى وجمع من حوله كل الآراء، ولذلك أفلح وساد وتمكن ونصره الله سبحانه وتعالى.
أما الناصر لدين الله فكان على عكس أبيه تماماً، فقد كان معتداً برأيه، وأمر آخر خطير جداً عند الناصر لدين الله أنه استعان بوزير ذميم الخلق جداً اسمه أبو سعيد بن جامع، فقد شك كثير من المؤرخين في نواياه، وشك كثير من الأندلسيين والمغاربة المعاصرين له في اقتراحاته، فهو من أصل إسباني، ويقال: إنه كانت له اتصالات مع الصليبيين أدت إلى أمور خطيرة جداً في دولة الموحدين، فهذا هو الرجل الوحيد الذي كان يأمن له الناصر لدين الله ولم يستعن بكل آراء أشياخ الموحدين وقادة الأندلسيين الموجودين في تلك الفترة.
ومن الناحية الأخرى فإن جيش النصارى حصل فيه تعبئة روحية كبيرة جداً، قادها البابا بنفسه في روما، وقالوا: إنها حرب صليبية مقدسة، ورفعوا صور المسيح، وقال البابا: إن من يشارك هذه الموقعة سيمنح له الغفران التام، وهذا كما حدث في موقعة الزلاقة، فحصل استنفار عام في كل بلاد أوروبا اشتركت فيه معظم الدول الأوروبية، حتى وصل الاستنفار إلى القسطنطينية في شرق أوروبا التي تبعد كثيراً عن بلاد الأندلس، وتولت فرنسا الإنفاق على الجيوش بالإضافة إلى إمداد الرجال للجيش القشتالي؛ فإن فرنسا يهمها جداً هزيمة المسلمين؛ لأنها البلد التالية لبلاد الأندلس إن قامت لدولة الموحدين دولة قوية كانت الدائرة على بلاد فرنسا في المرحلة التالية.
ثم إن مملكة نافار كانت معاهدة للمنصور الموحدي قبل أن يموت، ومع ذلك فقد أرسل إليها البابا رسالة يحضها فيها على نبذ معاهدة الموحدين، وعلى إرجاع العلاقة مع القشتاليين، ومن المعروف أن القشتاليين كما ذكرنا من قبل قد اختلفوا مع مملكة ليون ونافار بعد هزيمة الأرك، فالبابا يريد منهم التوحد في مواجهه الصف المسلم، فسمع له ملك نافار وأطاع، وتوحدت جيوش أوروبا حتى بلغ الجيش الأوروبي في الموقعة التي ستحدث الآن بين الصليبيين وبين المسلمين مائتي ألف صليبي يتقدمهم الملوك والرهبان.
وفي المقابل فإن الناصر لدين الله أعلن الجهاد وجمع المجاهدين من بلاد المغرب العربي والأندلس، حتى وصل إلى (500) ألف مقاتل؛ يعني: كان ضعف جيش النصارى أو أكثر، وأقل رواية ذكرت عدد المسلمين أنهم كانوا (260) ألف مقاتل، والنصارى لم يزيدوا على (160) ألف نصراني، يعني: كان جيش المسلمين في كل الروايات ضعف جيش النصارى أو أكثر، وانطلق الناصر لدين الله بجيشه من بلاد المغرب وعبر مضيق جبل طارق وتوجه إلى منطقة عرفت في التاريخ بمنطقة العقاب؛ لوجود قصر قديم فيها اسمه: العقاب دارت حوله الموقعة، لكن سبحان الله فإن اسم الموقعة كان اسماً على مسمى، فقد كانت عقاباً للمسلمين على مخالفتهم، وعقاباً للناصر على اعتداده برأيه، وعقاباً للمجاهدين على انغماسهم في الغنائم والأموال التي فتحت عليهم بعد عهد المنصور الموحدي رحمه الله، وكانت عقاباً للثورات المتكررة التي دارت على دولة الموحدين بعد صلاح حالها، والتي أدت إلى إنهاك قوى الموحدين ضد النصارى، وما جاز لهم أبداً أن يفعلوا هذا الأمر بعد أن صلح حال الموحدين.
المهم أن الناصر لدين الله دخل أرض الأندلس بهذا العدد الكثيف من المسلمين، وأول ما دخل حاصر قلعة كبيرة جداً للنصارى اسمها قلعة سلبطرة؛ وكانت هذه القلعة حصينة جداً في جنوب طليطلة، وكان الصليبيون في داخل هذا الحصن قليلين جداً، لكن من حصانة القلعة لم يستطع المسلمون أن يفتحوها، فاجتمع قادة الموحدين وقادة ال