قام أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بالأمر أحسن قيام، فرفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، وغير كثيراً من أسلوب السابقين، وبدأ يأمر بشيء من الهدوء والسكينة الكبيرة، حتى إنه كان يقف في الطريق ليقضي حاجة المرأة والضعيف، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان زاهداً جداً يلبس الصوف الخشن من الثياب، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته، فاستقامت الأحوال في البلاد وعظمت الفتوحات.
كان حازماً جداً وحليماً جداً، حارب الخمور بشدة، وأحرق كتب الفلاسفة، واهتم بالطب والهندسة، وألغى المناظرات العقيمة التي كانت موجودة في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين، وأسقط الديون عن الأفراد، وزاد بشدة في عطايا العلماء، ومال إلى مذهب ابن حزم الظاهري، لكن لم يفرضه على الناس، بل إنه حرق الكثير من كتب الفروع، وأمر بالاعتماد على كتاب الله وكتب السنة الصحيحة.
اهتم بالعمران بشدة، فأنشأ مدينة الرباط، وسماها رباط الفتح، وأنشأ المستشفيات، وغرس فيها كثيراً من الأشجار، وخصص الأموال الثابتة لكل مريض لشراء الأدوية، وكان رحمه الله يعود المرضى بنفسه يوم الجمعة، وكان يجمع الزكاة بنفسه، ويفرقها على الناس، وكان كريماً جداً مع الفقراء، فقد وزع في عيد أكثر من سبعين ألف شاة على الفقراء، وهو أول من أعلن صراحة فساد أقوال محمد بن تومرت في قضية العصمة والمهدية، فقال: إن هذا ضلال من الضلالات، وإنه لا عصمة لأحد إلا للأنبياء، وكان مجلسه دائماً عامراً بالعلماء وأهل الخير، ذكر الذهبي رحمه الله في العبر: أنه كان يجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وكان فصيحاً مهيباً يرتدي زي الزهاد والعلماء، وكان مع ذلك عليه جلالة الملوك، تولى الحكم وهو يبلغ من العمر (25) سنة فقط.
أما بلاد الأندلس فقد وطد الأوضاع فيها بشدة، وقوى الثغور، وكان يقاتل هناك بنفسه، وكانت أشد الممالك عليه ضراوة مملكة البرتغال، ثم من بعدها مملكة قشتاله.
وفي سنة (585هـ) حدثت ثورة في بلاد الأندلس في جزر البليار، قادها أتباع المرابطين وهم قبيلة بني غانية، كانت لهم ثورات كثيرة على عبد المؤمن بن علي ومن ثم ابنه، فقاموا بثورتين: الأولى في جزر البليار، والأخرى في تونس، فعاد يعقوب المنصور من بلاد الأندلس إلى جزر البليار فقمع الثورة الأولى ثم إلى تونس فقمع الثورة الثانية، فضعفت لذلك قوة الموحدين في الأندلس؛ لأنه انشغل عن الأندلس بوقف هذه الثورة.
استغل ملك البرتغال هذا الأمر، واستعان بجيوش ألمانيا وإنجلترا البرية والبحرية، فحاصر إحدى مدن المسلمين هناك واحتلها وأخرج المسلمين منها، وفعل بعض الموبقات في هذه المنطقة، ووصل في تقدمه إلى غرب مدينة إشبيلية في جنوب الأندلس، وأصبح الوضع في منتهى الخطورة.
أما بنو غانية فقد كان مقبولاً منهم أن يقوموا بثورات على السابقين؛ لأنه كانت لهم أفكار ضالة خرجت عن منهج الله سبحانه وتعالى، لكن أن يقوموا على هذا الرجل الذي أعاد للشرع هيبته من جديد، والذي أقام الإسلام كما ينبغي أن يقام، وأعاد القرآن والسنة إلى مكانهما الصحيح، فهذا مما لا يجوز، بل كان من المفروض على بني غانية أن يضعوا أيديهم في يد أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي رحمه الله، ويضموا قوتهم إلى قوته؛ ليحاربوا العدو الرئيسي في هذا المكان وهو العدو الصليبي المتمثل في دول الشمال الأندلسي، سواء كانت قشتالة أو البرتغال أو الممالك الأخرى التي ضعفت شوكتها نسبياً، لكن هذا لم يحدث، فالثورة الداخلية أدت إلى ضعف قوة الموحدين في بلاد الأندلس، وإلى هذا الانهيار المتدرج في هذه المنطقة.