أما دعوى النسخ فلا دليل عليه؛ لأن الجمع بين آية النهي عن التولية، وآية ثبوت المئة للمئتين واضح، بل لا تعارض بينهما البتَّة؛ لأن آية الثبوت للضِّعف لم يُبَحْ فيها بحالٍ الانهزامُ والتوليةُ أمام الكفار، وهل تَضَمَّنتْ من دليل الخطاب الترخيصَ فيما فوق الضِّعف؟ هذا فيه لأهل العلم خلاف نذكره بعد هذا -إن شاء الله-.
فإذاً، حُكمُ الآية في النهي عن التولية باقٍ مُحْكم، وإنما كان يكون النَّسْخُ لو رُفِعَ حُكْمُ النّهي عن الفرار البتة، لكن تكون الآية المأمور فيها بالثبوت للضِّعف
مخصصة عند قوم؛ لعموم النهي عن التولية مطلقاً، اللهم إلا أن يقال: إن آية النهي عن التولية كانت عامة في اللفظ والمعنى، فكان الفرض أولاً إيجاب الثبوت مطلقاً، والنهي عن التولية في لقاء الكثرة والقلَّة، ثم نسخ عموم ذلك بآية الثبوت للضِّعف دون ما زاد عليه، فهذا وجه من النَّسْخ صحيحٌ إن سَلِم فيه أمران:
أحدهما: إن الفرض كذلك كان على العموم في أول الإسلام.
والثاني: إن في آية الثبوت للضِّعف ما يدلُّ على إباحة التولية عمَّا فوق الضِّعف، وعلى هذا يجيء مذهب من قال بالنَّسخ؛ لأنه لا يصح القول به إلا كذلك، وإذا حُمِلَت الآية في النهي عن التولية على ظاهرها من الإطلاق والعموم في اللفظ والمعنى، فَعَنْه ينشأ الخلاف الذي أشرنا إليه، فيكون عند قوم ذلك باقياً مُحكماً على كل حال، ولا نسلِّم ما يُدَّعى في ذلك من نسخ ذلك العمومِ، أو تخصيصه عند قوم بأنه الثبوت للضِّعف؛ لأن آية الثبوت للضِّعف لم يُتعرَّض فيها لشيءٍ من ذلك بنسخٍ ولا تخصيص، فيكون هذا قولاً رابعاً في الآية، وعليه يجيءُ مذهب أهل الظاهر (?) .
وأما قول من ذهب إلى أن الآية في أهل بدرٍ خاصَّة، وأن حكم ذلك لا يتناول غيرهم، فدعوى من غير دليل؛ لأنَّ الخطاب بذلك عامٌّ في جميع المؤمنين،