وكأنّ العفو حرام، والكظم محظور، والمكافأة مأمور بها.
وهذا بالأمس عليّ بن محمد ذو الكفايتين، اغترّ بشبابه، ولها عن الحزم والأخذ به فيما كان أولى به، وظنّ أنّ كفايته تحفظه، ونسبه من أبيه يكنفه، وبراءته تحتجّ له، وذنوبه الصغيرة تغتفر، لبلائه المذكور، وغنائه المشهور، ومشى فعثر، وراب فخثر، والأوّل يقول:
من سابق الدّهر كبا كبوة ... لم يستقلها آخر الدّهر
فاخط مع الدّهر إذا ما خطا ... واجر مع الدّهر كما يجري
وقال لي الخليل- وكان لطيف المحلّ عنده، لما كان يرى من اختصاص أبيه له، ولما يظهر من فضله عنده- قلت له يوما: يا هذا، في أيّ شيء أنت؟! وبأيّ شيء تعلّل؟! وقد شحذت المواسي، وحدّدت الأنياب، وفتلت المرائر، ونصبت الفخاخ، والعيون محدّقة نحو القطيعة، والأعناق صور إلى الفظيعة، وأنت لاه ساه عمّا يراد بك بعد، يسبيك هذا المزرفن وهذا المرخي وهذا المعرّض «1» ، وهذا الحليق، وهذا النّتيف، وهذا المعقرب الصّدغ، وهذا المصفوف الطّرّة، وبالكاس والطاس، والغناء والقصف، والناي والعود، والصّبوح والغبوق، والشراب المروّق العتيق، والله ما أدري ما أصنع، إن سكتّ عنك كمدت، وإن نصحتك خفت منك، ونعوذ بالله من اشتباه الرأي، واشتباك الأمر، وقلّة الاحتراس، والإعراض عمّا يجري من أفواه الناس.
يا هذا، سوء الاستمساك خير من حسن الصّرعة، وتلقّي الأمر بالحزم والشهامة أولى من استدباره بالحسرة والنّدامة، ومن لا تجربة له يقتبس ممّن له تجربة، فإذا نقب الخفّ دمي الأظلّ.
فقال: قد فرغ الله ممّا هو كائن، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
قال: قلت له: ما أطلعك الله على كائنات الأمور، ولا أعلمك بعواقب الأحوال، وإنما عرّفك حظّك بعد أن وفّر عقلك، وأحضرك استطاعتك، وأوضح لقلبك ما عليك ولك، حتّى يستشفّ ويستكشف، وملّكك النّواصي حتّى تمنّ وترسل، وما طالبك إلّا بعد أن أزاح علّتك، ولا عاقبك إلّا بعد أن أنذرك وأنظرك، وبمثل هذا تطالب أنت من هو دونك من خدمك وحشمك، وأوليائك وأعدائك، وهذا الّذي أعذلك عليه هو الذي به تعذل غيرك وتراه ضالّا في مسلكه، متعرّضا لمهلكه.