ما لا يشكّ فيه أحد وإن أباه طباعه، ولم يساعده اختياره، وكان في طينه يبس، وفي منبته شوك، وفي عرقه خور، وفي خلقه تيه.

وقد رأيت ناسا من عظماء أهل الفضل والمروءة عابوا مذهب الرّجل الذي ماكس في شيء تافه يسير اشتراه، قيل له: أنت تهب أضعاف هذا، فما هذا المكاس؟! فقال: هذا عقلي أبخل به، وتلك مروءتي أجود بها.

وأكثر الناس الذين لم يغوروا في التّجارب، ولا أنجدوا في الحقائق، يرون هذا حكمة تامّة، وفضيلة شريفة.

فأمّا الذين ذكرتهم في أوّل الحديث فإنهم قالوا: لا تتمّ المروءة وصاحبها ينظر في الدّقيق الحقير، ويعيد القول ويبدئه في الشيء النّزر الذي لا مردّ له ظاهر، ولا جدوى حاضرة.

وذكروا أيضا أنّ العقل أشرف من أن يذال في مثل هذه الحال، ويستخدم على هذا الوجه، قالوا: هذا وما هو في بابه بالكيس أشبه، والكيس يحمد في الصّبيان، وهو من مبادئ اللّؤم، وفوائح صدإ الخلق، وقد قال الأوّل:

وقد يتغابى المرء عن عظم ماله ... ومن تحت برديه المغيرة أو عمرو

ولذلك يقال للحيوان الذي لا ينطق: هو كيّس.

هذا والله الصّدق، فإني سمعت بمكة أعرابيّا يقول: ما أكيس هذا القطّ؟! قالوا: ولذلك لا يقال للشّيخ المجرّب والحكيم البليغ والأصيل في الشّرف والمشهور بالزّماتة والسّكينة: كيّس. والكيس هو حدّة الحسّ في طلب المثالة ودفع الكريهة وبلوغ الشّهوة. والحسّ بعيد من العقل، والعالي في الحسّ كأنّه يرتقي في وادي الحيوان الذي لا نطق له، والعالي في العقل كأنّه مطمئن في وادي الملك الذي لا حسّ له، والملك لم يعدم الحسّ لنقصه، ولكن لكماله، لأنّه غنيّ عنه، كما أنّ الحمار لم يعدم العقل لكماله، ولكن لنقصه ولما لم يرد من الحمار أن يكون إنسانا جبل على ما هو له وبه كامل في نقصه، أي هو كامل بما هو به حمار وناقص بما ليس هو به إنسانا، ولما لم يرد من الإنسان أن يكون حمارا حفظ عليه ما هو به إنسان، ودرّج إلى كمال الملك الذي هو به شبيه، وهذا التدريج طريقه على الاختيار الجيّد والتوفيق السابق.

وبعدت- جعلني الله فداك- عن منهج القول وسنن الحديث، وأطعت داعية الوسواس، وذهبت مع سانح الوهم، وقد قيل: «الحديث ذو شجون» .

وقد قال الأوّل:

ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح

طور بواسطة نورين ميديا © 2015