وقال أيضا: مما يؤكّد هذه الجملة أنّ الشّريعة قد أتت على معقول كثير، بنور الوحي المنير، ولم تأت الفلسفة على شيء من الوحي لا كثير ولا قليل.

قال: وليس ليونان نبيّ يعرف، ولا رسول من قبل الله صادق، وإنما كانوا يفزعون إلى حكمائهم في وضع ناموس يجمع مصالح حياتهم ونظام عيشهم ومنافع أحوالهم في عاجلتهم، وكانت ملوكهم تحبّ الحكمة وتؤثر أهلها، وتقدّم من تحلّى بجزء من أجزائها، وكان ذلك الناموس يعمل به ويرجع إليه، حتى إذا أبلاه الزمان، وأخلقه اللّيل والنّهار، عادوا فوضعوا ناموسا آخر جديدا بزيادة شيء على ما تقدّم أو نقصان، على حسب الأحوال الغالبة على الناس، والمغلوبة بين الناس، ولهذا لا يقال:

إن الإسكندر في أيام ملكه حين سار من المغرب إلى المشرق كانت شريعته كذا وكذا، وكان يذكر نبيا يقال له: فلان، أو قال: أنا نبيّ، ولقد واقع دارا وغيره من الملوك على طريق الغلبة في طلب الملك، وحيازة الديار وجباية الأموال والسّبي والغارة، ولو كان للنبوة ذكر وللنبيّ حديث لكان ذلك مشهورا مذكورا، ومؤرّخا معروفا.

قال الوزير: هذا كلام عجيب ما سمعت مثله على هذا الشرح والتفصيل! قلت: إنّ شيخنا أبا سليمان غزير البحر، واسع الصدر، لا يغلق عليه في الأمور الرّوحانية والأنباء الإلهية والأسرار الغيبيّة، وهو طويل الفكرة، كثير الوحدة، وقد أوتي مزاجا حسن الاعتدال، وخاطرا بعيد المنال، ولسانا فسيح المجال، وطريقته هذه التي اجتباها مكتنفة بمعارضات واسعة، وعليها مداخل لخصمائه، وليس يفي كلّ أحد بتلخيصه لها، لأنه قد أفرز الشّريعة من الفلسفة، ثم حثّ على انتحالهما معا، وهذا شبيه بالمناقضة. وقد رأيت صاحبا لمحمد بن زكرياء في هذه الأيام ورد من الرّيّ يقال له: أبو غانم الطبيب، يشادّه في هذا الموضع ويضايقه، ويلزمه القول بما ينكره على الخصم، وإذا أذنت رسمت كلامهما في ورقات.

فقال الوزير: قد بان الغرض الذي رمى إليه، وتقليبه بالجدل لا يزيده إلا إغلاقا، والقصد معروف، والوقوف عليه كاف، ومع هذا فليت حظّنا منه كان يتوفر بالتلاقي والاجتماع، لا بالرواية والسماع، هات فائدة الوداع، فقد بلغت في المؤانسة غاية الإمتاع.

قلت: أكره أن أختم مثل هذه الفقر الشريفة بما يشبه الهزل وينافي الجدّ، فإن أذنت رويت ما يكون أساسا ودعامة لما تقدّم.

قال: هات ما أحببت، فما عهدنا من روايتك إلا ما يشوّقنا إلى رؤيتك.

قلت: قال ابن المقفّع: عمل الرّجل بما يعلم أنه خطأ هوى، والهوى آفة العفاف، وتركه العمل بما يعلم أنّه صواب تهاون، والتّهاون آفة الدّين، وإقدامه على ما لا يعلم أصواب هو أم خطأ لجاج، واللّجاج آفة الرّأي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015