تكلّم، وأنّ ماء نبع من أصابع فروي منه جيش عظيم، وأنّ جماعة شبعت من ثريدة في قدر جسم قطاة؟
وعلى هذا، إن كنتم تدعون إلى شريعة من الشرائع التي فيها هذه الخوارق والبدائع فاعترفوا بأنّ هذه كلّها صحيحة ثابتة كائنة لا ريب فيها ولا مرية، من غير تأويل ولا تدليس، ولا تعليل ولا تلبيس، وأعطونا خطّكم بأنّ الطّبائع تفعل هذا كلّه، والموادّ تواتي له، والله تعالى يقدر عليه، ودعوا التّورية والحيلة والغيلة «1» والظاهر والباطن، فإنّ الفلسفة ليست من جنس الشّريعة، ولا الشّريعة من فنّ الفلسفة، وبينهما يرمي الرّامي ويهمي الهامي، على أنّا ما وجدنا الدّيّانين من المتألّهين من جميع الأديان يذكرون أنّ أصحاب شرائعهم قد دعوا إلى الفلسفة وأمروا بطلبها واقتباسها من اليونانيّين هذا موسى وعيسى وإبراهيم وداود وسليمان وزكريّا ويحيى إلى محمد- صلّى الله عليه وسلّم- لم نحقّ من يعزو إليهم شيئا من هذا الباب، ويعلّق عليهم هذا الحديث.
قال الوزير: ما عجبي من جميع هذا الكلام إلّا من أبي سليمان في هذا الاستحقار والتّغضب، والاحتشاد والتعصّب، وهو رجل يعرف بالمنطقيّ، وهو من غلمان يحيى بن عديّ النّصراني، ويقرأ عليه كتب يونان، وتفسير دقائق كتبهم بغاية البيان.
فقلت: إنّ أبا سليمان يقول: إن الفلسفة حقّ لكنّها ليست من الشّريعة في شيء، والشّريعة حقّ لكنّها ليست من الفلسفة في شيء، وصاحب الشّريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي، والآخر مخصوص ببحثه، والأوّل مكفيّ، والثاني كادح، وهذا يقول: أمرت وعلّمت، وقيل لي، وما أقول شيئا من تلقاء نفسي، وهذا يقول: رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت، وهذا يقول: نور العقل أهتدي به، وهذا يقول: معي نور خالق الخلق أمشي بضيائه، وهذا يقول: قال الله تعالى، وقال الملك، وهذا يقول: قال أفلاطن وسقراط، ويسمع من هذا ظاهر تنزيل، وسائغ تأويل، وتحقيق سنّة، واتّفاق أمّة، ويسمع من الآخر الهيولى والصّورة والطبيعة والأسطقسّ والذّاتيّ والعرضيّ والأيسيّ واللّيسيّ، وما شاكل هذا ممّا لا يسمع من مسلم ولا يهوديّ ولا نصرانيّ ولا مجوسيّ ولا مانويّ.
ويقول أيضا: من أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الدّيانات، ومن اختار التّديّن فيجب عليه أن يعرّد «2» بعنايته عن الفلسفة ويتحلّى بهما مفترقين في مكانين على حالين مختلفين، ويكون بالدّين متقرّبا إلى الله تعالى، على ما أوضحه له صاحب الشّريعة عن الله تعالى، ويكون بالحكمة متصفّحا لقدرة الله تعالى في هذا العالم الجامع للزّينة الباهرة لكل عين، المحيّرة لكلّ عقل، ولا يهدم أحدهما بالآخرة.