فقال له الجريريّ: أمّا قولك طبّ المرضى وطبّ الأصحّاء وما نسّقت عليه كلامك فمثّل لا يعبّر به غيرك ومن كان في مشكل، لأنّ الطبيب عندنا الحاذق في طبّه هو الذي يجمع بين الأمرين، أعني أنّه يبرئ المريض من مرضه، ويحفظ الصّحيح على صحّته، فأما أن يكون هاهنا طبيبان يعالج أحدهما الصحيح، والآخر يعالج المريض، فهذا ما لم نعهده نحن ولا أنت، وهو شيء خارج عن العادة، فمثلك مردود عليك، وتشنيعك فاضح لك، وكلّ أحد يعلم أن التدبير في حفظ الصحّة ودفع المرض- وإن كان بينهما فرق- واحد، فالطّبّ يجمعهما، والطبيب الواحد يقوم بهما وبشرائطهما.
وأمّا قولك في الفصل الثاني: إنّ إحدى الفضيلتين تقليدية، والأخرى برهانيّة، فكلام مدخول، لأنّك غلطت على نفسك، ألا تعلم أن البرهانية هي الواردة بالوحي، الناظمة للرّشد، الداعية إلى الخير، الواعدة بحسن المآب، وأنّ التقليديّة هي المأخوذة من المقدّمة والنتيجة، والدعوى التي يرجع فيها إلى من ليس بحجّة، وإنما هو رجل قال شيئا فوافقه آخر وخالفه آخر، فلا الموافق له يرجع إلى الوحي، ولا المخالف له يستند إلى حقّ، والعجب أنّك جعلت الشريعة من باب الظنّ، وهي بالوحي، وجعلت الفلسفة من باب اليقين، وهي من الرأي.
وأمّا قولك: هذه روحانيّة- تعني الفلسفة- وهذه جسميّة- تعني الشريعة- فزخرفة لا تستحقّ الجواب، ولمثل هذا فليعمل المزخرفون، على أنا لو قلنا: بل الشريعة هي الرّوحانيّة، لأنها صوت الوحي، والوحي من الله عزّ وجلّ، والفلسفة هي الجسميّة، لأنها برزت من جهة رجل باعتبار الأجسام والأعراض، وما هذا شأنه فهو بالجسم أشبه، وعن لطف الرّوح أبعد لما أبعدنا.
وأما قولك: الفلسفة خاصة والشريعة عامة، فكلام ساقط لا نور عليه، لأنّك تشير به إلى أن الشريعة يعتقدها قوم- وهم العامّة- والفلسفة ينتحلها قوم- وهم الخاصة- فلم جمعتم رسائل إخوان الصفاء ودعوتم الناس إلى الشريعة وهي لا تلزم إلا للعامّة، ولم تقولوا للناس: من أحبّ أن يكون من العامة فليتحلّ بالشريعة، فقد ناقضتم، لأنكم حشوتم مقالتكم بآيات من كتاب الله تزعمون بها أن الفلسفة مدلول عليها بالشريعة، ثم الشريعة مدلول عليها بالمعرفة، ثم هأنت تذكر أن هذه للخاصّة، وتلك للعامّة، فلم جمعتم بين مفترقين، وفرقتم بين مجتمعين، هذا والله الجهل المبين، والخرق المشين.
وأمّا قولك: إنّا جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأنّ الفلسفة معترفة بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدة للفلسفة، فهذه مناقضة أخرى، وإني أظن أنّ حسّك كليل، وعقلك عليل، لأنّك قد أوضحت عذر أصحاب الشريعة، إذ جحدوا الفلسفة، وذلك أن الشّريعة لا تذكرها، ولا تحضّ على الدّينونة بها، ومع ذلك فليس لهم علم بأنّ