فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دخلته؟ وما خبره؟ فقد بلغني أنّك تغشاه وتجلس إليه، وتكثر عنده، وتورّق له، ولك معه نوادر مضحكة، وبوادر معجبة. ومن طالت عشرته لإنسان صدقت خبرته به، وانكشف أمره له، وأمكن اطّلاعه على مستكنّ رأيه وخافي مذهبه وعويص طريقته.
فقلت: أيّها الوزير، هو الذي تعرفه قبلي قديما وحديثا بالتربية والاختبار والاستخدام، وله منك الأخوّة القديمة والنّسبة المعروفة.
قال: دع هذا وصفه لي.
قلت: هناك ذكاء غالب، وذهن وقّاد، ويقظة حاضرة، وسوانح متناصرة، ومتّسع في فنون النّظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ أيّام الناس، وسماع للمقالات، وتبصّر في الآراء والدّيانات، وتصرّف في كلّ فنّ: إمّا بالشدو «1» الموهّم، وإمّا بالتّبصّر المفهم، وإما بالتّناهي المفحم.
فقال: فعلى هذا ما مذهبه؟
قلت: لا ينسب إلى شيء، ولا يعرف برهط، لجيشانه بكلّ شيء، وغليانه في كل باب. ولاختلاف ما يبدو من بسطة تبيانه، وسطوته بلسانه، وقد أقام بالبصرة زمانا طويلا، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم وأنواع الصّناعة، منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيستيّ، ويعرف بالمقدسيّ، وأبو الحسن علي بن هارون الزّنجانيّ، وأبو أحمد المهرجانيّ والعوقيّ وغيرهم، فصحبهم وخدمهم، وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصّداقة، واجتمعت على القدس والطّهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنّهم قرّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنّته، وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دنّست بالجهالات، واختلطت بالضّلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، وذلك لأنّها حاوية للحكمة الاعتقاديّة، والمصلحة الاجتهاديّة.
وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، وصنّفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة: علميّها وعمليّها، وأفردوا لها فهرستا وسمّوها رسائل إخوان الصّفا وخلّان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثّوها في الورّاقين، ولقّنوها الناس، وادّعوا أنّهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عزّ وجلّ وطلب رضوانه ليخلّصوا الناس من الآراء الفاسدة التي تضرّ النفوس، والعقائد الخبيثة التي تضرّ أصحابها، والأفعال المذمومة الّتي يشقى بها أهلها، وحشوا هذه الرسائل بالكلم الدّينيّة والأمثال الشرعيّة والحروف المحتملة والطّرق الموهمة.