بالعلم، والكوكب الوقاد بالجود، والبحر الفياض بالمواهب ... الخ» «1» .
ولا شك أن التوحيدي لم يكن موفقا كل التوفيق حينما تلا تلك الرسالة على مسامع الصاحب بن عبّاد، حتى وإن كان هو الذي أمره بذلك وألحّ عليه فيه، مما جعل المقربين إلى الصاحب يقولون لأبي حيان: «جنيت على نفسك، حين ذكرت عدوّه عنده بخير، وبينت عنه وجعلته سيد الناس ... !» .
ويروي أبو حيان في موضع آخر أن الصاحب بعث يوما بخادمه إلى أبي حيان، طالبا منه نسخ ثلاثين مجلدة من رسائله، بدعوى أنها مطلوبة في الحال لمدينة خراسان، فما كان من التوحيدي سوى أن أجابه- بعد ارتياع-: «هذا طويل، ولكن لو أذن لي، لخرّجت منه فقرا كالغرر. لو رقى بها مجنون لأفاق، ولو نفث على ذي عاهة لبرأ، لا تمل، ولا تستغث، ولا تعاب، ولا تسترث ... » . والظاهر أن هذا الكلام قد رفع إلى الصاحب على وجه مكروه، دون أن يعلم أبو حيان من أمره شيئا، فقال ابن عباس: «طعن في رسائلي وعابها، ورغب عن نسخها، وأزرى بها، والله لينكرنّ مني ما عرف، وليعرفن حظه إذا انصرف» ! ويبدو أن الصاحب قد وجد في مسلك أبي حيان تطاولا منه على رئيسه ووليّ نعمته، فإن التوحيدي قد ادّعى لنفسه القدرة على تمييز الغث من السمين في رسائل الصاحب نفسه، وكأنه كان أعلم منه بالرديء والجيد من الكلام! ومع ذلك فإنّ أبا حيان يدهش لما قاله الصاحب: لأنه حين عاب رسائل ابن عباد، فإنه لم يطعن في القرآن، ولم يرم الكعبة بخرق الحيض، ولم يسلح في زمزم! ...
« ... وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة؟ ومن هذا الذي يستحسن هذا التكليف حتى أعذره في لومي على الامتناع؟ أي إنسان ينسخ هذا القدر، وهو يرجو بعده أن يمتعه الله ببصره أو ينفعه بيده؟ ثم ما ذنبي إذا قال لي: من أين لك هذا الكلام المفوّف المشوّف الذي تكتب إليّ به في الوقت بعد الوقت؟
فقلت: وكيف لا يكون كما يوصف، وأنا أقطف من ثمار رسائله، وأستقي من قليب علمه، وأشيم بارقة أدبه، وأرد ساحل بحره، وأستوكف قطر مزنه! فيقول: كذبت وفجرت لا أمّ لك! ومن أين في كلامي الكدية (أي التوسل) والشحذ والضرع والاسترحام!؟ كلامي في السماء، وكلامك في السّماد ... !» «2» .
وقد حاول التوحيدي أن يبرّر موقفه من الصاحب فقال: «ولكني ابتليت به، وكذلك هو ابتلي بي، ورماني عن قوسه معرقا، فأفرغت ما كان عندي على رأسه