إلا أن البخاري لما كان يصنف كِتَابًا في رواية الحديث النبوي لا الفقه، ففَد سلك طَرِيقاً مُبْتَكَرًا وَطَرِيفًا، يُحَقِّقُ به هذا المقصد الجليل من غير أن يخرج عن سلك أهل الرواية في التصنيف، وذلك بأن توجه إلي عناوين الكتاب، ويسميها المحدثون " تراجم الكتاب " وأودع فيها تلك الفوائد والاستنباطات، وَتَفَنَّنَ في ذلك تَفَنُّنًا عَجِيبًا حَتَّى جاء [كِتَابُهُ] فَرِيدًا في منهجه هذا، كما جاء فَائِقًا في صحة مروياته.
وهكذا كان " الجامع الصحيح " للامام أبي عبد الله البخاري مُعَلِّمًا في الحديث والفقه، ومدرسة تعلم قارئه الاستنباط من الأحاديث النبوية بمختلف صنوف الاستنباطات، حتى أدهش العلماء وَحَيَّرَهُمْ في هذه الصنوف، واشتهر بينهم هذا القول العظيم المعنى شهرة الأمثال: " فِقْهُ البُخَارِي فِي تَرَاجِمِهِ ".
ولئن كانت الرواية للحديث هي سبيل الدراية في فقهه قضية مُسَلَّمَةً عند كل مَنْ يعقل العلم، كان من الأهمية بمكان كبير تَقْدِيم بحث عن هذه التراجم، وطرق الامام البخاري في التفقه فيها، لتذليل سبيل هذا الغرض الجليل، [وتقريبه] بإيجاز وإيضاح واستيفاء إلى قُرَّاءِ " صحيح الامام البخاري " خاصة، وَالسُنَّةَ عَامَّةً، لاسيما وأن كل ما صدر من طبعات الكتاب أغفل ناشروها في تعاريفاتهم بالكتاب وفاء هذا الجانب الخطير حقه!!
وقد مَهَّدْنَا للبحث بنبذة يسيرة عن حياة الامام البخاري، تبرز نبوغه، وتكامل تكوينه الفقهي، إلى جانب إمامته الكبرى في الحديث، ثم بوجازة عن " جامعه الصحيح " وطريقته فيه، لتكون مَدْخَلاً لبحث تراجمه.
ثم راعينا في بحثنا هذا تقسيم التراجم في إطار مُيَسَّرٍ للفهم، مع الاستعانة بالأمثلة الموضحة، والاستشهاد بأقوال أئمة العلم، وبيان ما يؤدي إليه البحث المُحَقَّقُ في مواضع الاشكال. كما يلحظه القارىء فيما يلي إن شاء الله تعالى. ومنه العون والتوفيق وله الحَمْدُ وَالمِنَّةُ.