مِنْهَا ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا فَيُقَالُ نَزَلَتْ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] فَأَعْلَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ مَخْرَجًا وَقَالَ {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] الْآيَةَ. وَأَمَرَهُمْ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ فَهَاجَرَتْ إلَيْهَا مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ثُمَّ دَخَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَائِفَةً فَهَاجَرَتْ إلَيْهِمْ غَيْرَ مُحَرِّمٍ عَلَى مَنْ بَقِيَ تَرْكَ الْهِجْرَةِ إلَيْهِمْ وَذَكَرَ اللَّه جَلَّ ذِكْرُهُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَقَالَ {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] .
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ فِي هَذَا عَلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ الْمُقَامَ بِهَا وَهِيَ دَارُ شِرْكٍ، وَإِنْ قَلُّوا بِأَنْ يُفْتَنُوا، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ بِجِهَادٍ. ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِالْجِهَادِ، ثُمَّ فُرِضَ بَعْدَ هَذَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُهَاجِرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، وَهَذَا مَوْضُوعٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : فَأَذِنَ لَهُمْ بِأَحَدِ الْجِهَادَيْنِ بِالْهِجْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ بِأَنْ يَبْتَدِئُوا مُشْرِكًا بِقِتَالٍ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ بِأَنْ يَبْتَدِئُوا الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج: 39 - 40] الْآيَةُ، وَأَبَاحَ لَهُمْ الْقِتَالَ بِمَعْنَى أَبَانَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 190 - 191] قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] .
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : يُقَالُ: نَزَلَ هَذَا فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ كَانُوا أَشَدَّ الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قِتَالِهِمْ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُقَالُ: نُسِخَ هَذَا كُلُّهُ وَالنَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ حَتَّى يُقَاتَلُوا وَالنَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] الْآيَةُ وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي مَوْضِعِهَا.
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : وَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِهَادَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إذْ كَانَ أَبَاحَهُ وَأَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَرَأَوْا كَثْرَةَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اشْتَدُّوا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَفَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، أَوْ مَنْ فَتَنُوا مِنْهُمْ فَعَذَرَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ الْمَفْتُونِينَ فَقَالَ {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا وَفَرَضَ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ الْخُرُوجَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ، وَلَا يُمْتَنَعُ» فَقَالَ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ تُوُفِّيَ تَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ فَلَمْ يُهَاجِرْ {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء: 97] الْآيَةَ. وَأَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَقَالَ {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} [النساء: 98] إلَى " رَحِيمًا ".
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : وَيُقَالُ " عَسَى " مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةٌ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ فُتِنَ عَنْ دِينِهِ بِالْبَلَدِ الَّذِي يُسْلِمُ بِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ