فيقال حكيم من الحكمة، وهو نوع من العلم، ويقال حكيم من الأحكام وهو نوع من الفعل، فقد اتضح لك معنى هذه الألفاظ في الأصل ولكن ههنا ثلاث غلطات للوهم يستفاد من الوقوف عليها الخلاص من إشكالات تغتر بها طوائف كثيرة: الغلطة الأولى: أن الإنسان قد يطلق اسم القبيح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره، ولكنه لا يلتفت إلى الغير، فكل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر ما عداه ولذلك يحكم على الفعل مطلقاً بأنه قبيح وقد يقول أنه قبيح في عينه، وسببه أنه قبيح في حقه بمعنى أنه مخالف لغرضه، ولكن أغراضه كأنه كل العالم في حقه فيتوهم أن المخالف لحقه مخالف في نفسه، فيضيف القبح إلى ذات الشيء ويحكم بالاطلاق؛ فهو مصيب في أصل الاسقباح ولكنه مخطيء في حكمه بالقبح على الاطلاق؛ وفي إضافة القبح إلى ذات الشيء ومنشؤه غفلته عن الالتفات إلى غيره، بل عن الالتفات إلى بعض أحوال نفسه، فإنه قد يستحسن في بعض أحواله غير ما يستقبحه مهما انقلب موافقاً لغرضه.
الغلطة الثانية فيه: أن ما هو مخالف للأغراض في جميع الأحوال إلا في حالة نادرة، فقد يحكم الإنسان عليه مطلقاً بأنه قبيح لذهوله عن الحالة النادرة ورسوخ غالب الأحوال في نفسه واستيلائه على ذكره، فيقضي مثلاً على الكذب بأنه قبيح مطلقاً في كل حال وأن قبحه لأنه كذب لذاته فقط لا لمعنى زائد، وسبب ذلك غفلته عن ارتباط مصالح كثيرة بالكذب في بعض الأحوال، ولكن لو وقعت تلك الحالة ربما نفر طبعه عن استحسان الكذب لكثرة إلفه باستقباحه، وذلك لأن الطبع ينفر عنه من أول الصبا بطريق التأديب والاستصلاح، ويلقي إليه أن الكذب قبيح في نفسه وأنه لا ينبغي أن يكذب قط، فهو قبيح ولكن بشرط يلازمه في أكثر الأوقات وإنما يقع نادراً، فلذلك لا ينبه على ذلك الشرط ويغرس في طبعه قبحه والتنفير عنه مطلقاً.
الغلطة الثالثة: سبق الوهم إلى العكس، فإن ما رئي مقروناً بالشيء يظن أن الشيء أيضاً لا محالة يكون مقروناً به مطلقاً ولا يدري أن الأخص أبداً يكون مقروناً بالأعم، وأما الأعم فلا يلزم أن يكون مقروناً بالأخص. ومثاله ما يقال من أن السليم، أعني الذي نهشته الحية، يخاف من الحبل المبرقش اللون، وهو كما قيل، وسببه أنه أدرك المؤذي وهو متصور بصورة حبل مبرقش، فإذا أدرك الحبل سبق الوهم إلى العكس وحكم بأنه مؤذ فينفر الطبع تابعاً للوهم والخيال وإن كان العقل مكذباً به، بل الانسان قد ينفر عن أكل الخبيض الأصفر لشبهه بالعذرة، فيكاد يتقيأ عند قول القائل إنه عذرة، يتعذر عليه تناوله مع كون العقل مكذباً به، وذلك لسبق الوهم إلى العكس فإنه أدرك المستقذر رطباً أضفر فإذا رأى الرطب الأصفر حكم بأنه