ذات هذه الأحوال فنجده يقصر عنه إلا بتقدير خطأ ثم ينكر بعد ذلك وجود موجود لا يدخل في خياله فهذا سبيل كشف الغطاء عن المسألة. وقد جاوزنا حد الاختصار ولكن المعتقدات المختصرة في هذا الفن أراها مشتملة على الاطناب في الواضحات والشروع في الزيادات الخارجة عن المهمات مع التساهل في مضايق الاشكالات فرأيت نقل الاطناب من مكان الوضوح، إلى مواقع الغموض أهم وأولى.
الدعوى الثامنة: ندعي أن الله تعالى منزه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش، فإن كل متمكن على جسم ومستقر عليه مقدر لا محالة فإنه أما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساوياً وكل ذلك لا يخلو عن التقدير، وأنه لو جاز أن يماسه جسم من هذه الجهة لجاز أن يماسه من سائر الجهات فيصير محاطاً به والخصم لا يعتقد ذلك بحال وهو لازم على مذهبه بالضرورة، وعلى الجملة يستقر على الجسم إلا جسم ولا يحل فيه إلا عرض وقد بان أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض، فلا يحتاج إلى إقران هذه الدعوى بإقامة البرهان. فإن قيل فما معنى قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى "؟ وما معنى قوله عليه السلام: " ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا " قلنا الكلام على الظواهر الواردة في هذا الباب طويل ولكن نذكر منهجاً في هذين الظاهرين يرشد إلى ما عداه وهو أنا نقول: الناس في هذا فريقان عوام وعلماء، والذي نراه اللائق بعوام الخلق أن لا يخاض بهم في هذه التأويلات بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب التشبيه ويدل على الحدوث ونحقق عندهم أنه موجود ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وإذا سألوا عن معاني هذه الآيات زجروا عنها، وقيل ليس هذا بعشكم فادرجوا فلكل علم رجال. ويجاب بما أجاب به مالك بن أنس رضي الله عنه، بعض السلف حيث سئل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة، والايمان به واجب، وهذا لأن عقول العوام لا تتسع لقبول المعقولات ولا إحاطتهم باللغات ولا تتسع لفهم توسيعات العرب في الاستعارات.
وأما العلماء فاللائق بهم تعريف ذلك وتفهمه، ولست أقول أن ذلك فرض عين إذ لم يرد به تكليف بل التكليف التنزيه عن كل ما تشبهه بغيره. فأما معاني القرآن، فلم يكلف الأعيان فهم جميعها أصلاً ولكن لسنا نرتضي قول من يقول، أن ذلك من المتشابهات كحروف أوائل السور، فإن حروف أوائل السور ليست موضوعة باصطلاح