ولما أن كان غالب قضاة زماننا بلغوا إلى ما لم يبلغه غيرهم، صنفت كتاباً في قبائحهم، وصدرته بأربعين حديثاً فيه مزيد الذم وشديد الوعيد على أكثر القضاة، وسميته: "جمر الغضا لمن تولى القضا" ولئن سلمنا أن القضاة فيهم المفتون، فللمفتي أن يكتب أن التعزير شديد أو غير شديد، ولا مانع من ذلك عند من له أدنى بصيرة.
على أن لأصحابنا وجهاً أن القاضي ليس له أن يفتي في الأحكام، فعليه: صار المفتي من القضاة كغيره، والاستدلالُ للاعتراض المذكور بأن التعزير راجع إلى أمر الحاكم في الشدة والضعف ناشئٌ عن الجهل بكلام الفقهاء وقواعدهم؛ لأنه ليس راجعاً إليه في الشدة والضعف، بل يجب عليه أن يفعل بالمُعَزَّر ما يناسب معصيته من التغليظ والتخفيف، وإنما الراجع إليه تعيين نوع من الأنواع التي يحصل بها ذلك، فتأمل هذا الإبهام الذي أوقع المعترضين في الاعتراض بذلك عليّ، إن للمفتي أن يغلظ في الجواب ولو بغير الواقع، حيث لا مفسده. ففي المجموع والروضة وأصلها: للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأوَّل عنده زجراً وتهديداً في مواضع الحاجة. زاد في الروضة: قلت: المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا: إذا رأى المفتي المصلحة أن يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز زجراً، كما روي عن ابن عباس