فإنه لما سطع نور الجليل على عينه يوم الميثاق وناله قربة الكف وقربة الكلام لم يكن عنده ما يستدل عليه فيعرفه تاه وتحير وذلك أنه نسي الصنع الأول فترك استعمال تلك الخمسة فصارت حديدته وهي المعرفة كأنه لا يعي ما الرحمة فيه فلم يعمل ذلك السطوع وتلاشي النار وبطل لم يقبله القلب إذ لم يجد شاهداً على ذلك فصار مشبهاً مشتركاً، قال الله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) ، فالبينة التي هي من ربه هي النور المقاديري والشاهد الذي يتلوه من النور الميثاقي، وقال: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) ، وقال: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) ، ألا ترى أن العيون هذه بنورها لا تبصر شيئا حتى تؤيد بنور المدد ليلتقيا بنوريهما على الشيء فيبصر الإنسان ما أحب فنور العين نور المعرفة متمكن فيها وهو النور الذي وضع في آدم عليه السلام ونور المدد النور الميثاقي من الجلال وهو نور البهاء أو السراج فما لم يلتق النوران على العين لم يبصر الإنسان الشيء فكذلك ما وصفنا ألا ترى أن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه لما نظر إلى الكواكب والقمر والشمس قال: (هذا ربي) ، فلما استعمل الخمسة الأشياء واستدل بما كان عنده فلم يتفق ولم يتشاكل نفاه، فقال: (لا أحب الآفلين) ، وتبرأ من كل واحد منها، وذلك أنه لما وقع بصره على النور ظن أنه نور ربه فقال هذا ربي، فلما استدل بما كان عنده من النور المقاديري الرباني ونور الميثاقي المؤيدي واستعمل قدحه الذي ذكرنا لم يعمل شيئا وتلاشى ذلك النور في جنب ما كان عنده ولم يتشاكلا ولم يدل على ربه كما دل الأولان ولم تقبله فطنة قلبه ورآه زائلاً علم أنه ليس من ذلك النور وتبرأ منه وفرغ إلى ربه فقال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) ، إلى آخره، وذلك من الله له ابتلاء واختيار إذ أراد أن يتخذه لنفسه خليلا ولا يتوهم عليه أنه شرك في ربه ولهذا غور بعيد لا يمكن صفته وفي قدر ما وصفنا كفاية للمستنبط العليم.
قال له قائل: فقوله: ألست بربكم ما هذه الألف هاهنا، قال له وجهان: وجه باطن، ووجه ظاهر.
فهو وجه الاستفهام، والاستفهام من السائل للمسئول يصف الجواب وهو التلقين والإشارة إلى ما عند المسئول في قلبه من الموجود والمدرك والمفهوم عليه والمعلوم والموصوف كذا وجدنا في مجاري كلام العرب وإنما استفهم الرب في ذلك الوقت لأن نور المعرفة كان عندهم بالحظوظ التي أصابوا من أبيهم يوم الخلقة وقربة النفخ وقربة التصوير وصنعة اليد، فقال: (ألست بربكم) ويذكرهم ويستحفظهم ويستجلبهم الذكر من ذلك الصنع الذي صنع بهم يوم آدم عليه السلام وما أكرمهم من النور ونفخ الروح وصنعة اليد ليذكروا ذلك ويستعملوا أفهامهم وأذهانهم فيبرزوا بهن نور المعرفة فيستدلوا به على ذلك فيعرفوه ويؤمنوا به ولا تكون المعرفة أبداً دون الرؤية أو السمع أو القربة كان بدياً قبل ذلك فإذا لاقاه بعد ذلك وقد سبق منه إليه قبل ذلك من قربة أو رؤية أو لقي أو سمع أو صفة دالة عليه أو آية تشير إليه بما فيها من معنى يؤدي عنه فذكر نفسه ذلك واستعمل الذهن في إصابته والوقوف على معرفته دلَّه الذهن والفهم والحفظ عليه فعرفه فقيل عارف ولا يقال لهذا علم فهو عالم إذ قد يستفهم العالم بالشيء الجاهل فيقول ألست بعالم بالكتابة والحساب. والمستفهم لا يعلم أن المستفهم كاتب أم لا؟ ولا يستفهم العارف بالشيء غير العارف لا يقال لغير العارف ألست بالكاتب حتى يعلم أنه بها عارف فإذا كان له منه معرفة قبل ذلك به استفهمه، فقال ألست بكاتب فيقول المستفهم بلى فدلّك هذا المثال على أن بني دم قد كانوا أصابوا حظوظهم يوم الخلقة من صنعة اليد والنفخ وصار ذلك عندهم رسماً على أعين قلوبهم فلما رأوا نوره يوم الميثاق وسمعوا كلامه ونالوا قربة كفه استنار ذلك بما كان عندهم فدلهم ذلك عليه فعرفوه فلما استفهمهم قال: ألست بربكم أي ألستم تعرفوني بالعلائم والشواهد والبينات والآيات التي عندكم قالوا بلى فقبل الله شهادتهم وإقرارهم فجعلهم عبيده من بين الخلق وصفوته ومجتباه وأحباءه وأولياءه.