فقال هود عليه السلام: {أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ} ولم يقل: "أشهد الله وأشهدكم" ليكون موازنًا وبمعناه؛ لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم؛ ولذلك عدل به عن اللفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه يقول له: "اشهد علي أنك أحبك" تهكمًا به واستهانة بحاله.
فهو هنا يريد أن يقول لك: أن اختلاف الصيغة كان لأمر واضح يتعلق بالمعنى؛ فلم يأت موازنًا على المضارعة، وإنّما عُدِلَ إلى الأمر؛ لبيان قلة المبالاة بأمر هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى.
يقول: وكذلك يرجع عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر، ويفعل ذلك توكيدًا لما أجري عليه فعل الأمر؛ لمكان العناية بتحقيقه كقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كأنّ تقديرَ الكلام "أمر ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد" فعُدل عن ذلك إلى فعل الأمر للعناية بتوكيده في نفوسهم؛ فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب؛ إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((الأعمال بالنيات)).
فابن الأثير هنا يبين لك العدول عن صيغة إلى صيغة أخرى لغرض يتصل بالمعنى، ويقُول عبارة جميلة: "واعلم أيها المتوشح بمعرفة علم البيان؛ أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك، وهو لا يتوخاها في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة،