احكم بالحق" بصيغة الأمر، فَمَن قرأ بصيغة الفعل الماضي جعل الفعل مسندًا إلى ضمير الرسول - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- المتقدم في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) فيكون ذلك إخبارًا من الله تعالى عما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دعائه، أما صيغة الأمر فهي على أنه أمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقول: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي: احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين، وانصرني عليهم.
فإن كل قراءة لها دَلالة تدل عليها، فقراءة الجمهور: "قُل" تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- أُمِرَ أن يقول ذلك، وقراءة حفص: {قَالَ} تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- امتثل الأمر بالفعل، وبذلك تلتقي القراءتان، ويتآخى المعنيان، ويظهر وجه الإعجاز في تنوع القراءات القرآنية.
عندنا كذلك من تنوع الأساليب بلاغيًّا الذي نتج عن القراءات هذه الآية من سورة المائدة في قول الله -سبحانه وتعالى-: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 112) قرئت: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وقرئت: "هل تَستطيع ربك" بتاء الخطاب، ونَصْب لفظ "رب" وهذه هي قراءة الكسائي، وقراءة الباقين أو قراءة الجمهور: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} بياء الغائب ورفع "رب" على الفاعلية.
هاتان القراءتان توضح أن هناك علاقةً بينهما، فقراءة بضمير الغيبة: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} طلب لمعاينة المائدة، وذلك ليزداد هؤلاء الحواريون بصيرةً، ويتمكن الإيمان بالله في قلوبهم، وقراءة الخطاب: "هل تستطيع ربك" تعظيم بشأن المولى -سبحانه وتعالى- جلت قدرته، وتنزهه -سبحانه وتعالى- عن العجز، حيث أسند الحواريون السؤال عن الاستطاعة إلى عيسى -عليه السلام- يعني: أنهم لا يتحدثون على استطاعة