أي: يقصد هنا الرافعي في تمهيده للكلام عن هذه المسألة: بأن أول أوجه بيان قيمة معرفة القراءات وطرق أدائها، أنها وجه إعجاز بين للقرآن الكريم، أنها على اختلافها وعلى اختلاف طرقها ووجوهها مع هذا الاختلاف، هي معجزة، ففي كل وجه مع ملاءمته لطبيعة العرب وفِطرتهم اللغوية، عجزوا عن معارضته وعجزوا عن الإتيان بمثله، فهذا أدعى لبيان أن الإعجاز أظهر عجزهم الفطري عن معارضة القرآن، وعن الإتيان بمثله مع هذا التنوع، وهذه الطرق التي قرئ بها القرآن الكريم. فإن القرآن لو نزل على لفظ واحد ما كان يضره شيء، وهو ما هو إحكام وإبداع، فما بالك وقد تعددت طرقه، وقد كثرت طرق نقله وروايته مما بين أثر هذا الإعجاز الواضح في تعدد طرق القراءات.
وهناك حكمة جليلة من هذا التعدد في طرق القراءة، وهذه الحكمة تتركز في تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لم يكن حفظ الشرائع مما عرفوه فضلًا عن أن يكون مما ألفوه، وكذلك يلحق بمعاني الإعجاز كون الألفاظ في اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنًى من معاني الشريعة، فالقراءات من حجة الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى انفرد به القرآن الكريم ولا يستطيع لغوي أو بياني في تصوير خيال، فضلًا عن تقرير شريعة.
وأيضًا من طرق الأداء وتنوعها يتبين لنا شيء عظيم، وهو أن الناظر في إعجاز القرآن ونظمه يحسب أن ألفاظ القرآن تنقاد لمعانيه، ثم يتعرف ويتغلغل فيه، فينتهي إلى أن معانيه منقادة بألفاظه، فإن الله -سبحانه وتعالى- خلق في العرب فطرةً لغويةً، وأنزل عليهم كتابه أعجز هذه الفطرة التي فُطِروا عليها، ووقفوا أمام أساليب القرآن وما قرئ به موقف العاجز على الإتيان أو على معارضة مثل هذا الكتاب المبارك الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى- عليهم.