ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلط ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر؛ لأن البرزخ منطقة قد تتقلَّب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر، لتكتسب المياه المتنقلة من بحر إلى بحر آخر، صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاء منه، وبهذا يمتنع طغيان بحر بخصائصه على البحر الآخر، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء، وصدق الله القائل: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}.
ثم انظر كيف جاء الوصف القرآني في آية سورة الفرقان، مبينًا خصائص اللقاء بين البحر العذب والبحر المالح، وجاء الوصف الدقيق أيضًا في آيات سورة الرحمن، مبينًا خصائص اللقاء بين البحرين الملحين، فظهر في عصرنا اليوم سرُّ تلك الفوارق الدقيقة بين الوصفين.
وهذا ما بيَّنه الدارسون فيما يُسمى بمصبَّات الأنهار، التي تحاط ببرزخ مائي، يفصلهما عن البحر والنهر، وتعتبر منطقة حجر للكائنات الحية الخاصة بها، ومنطقة محجورة عن الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر.
وبينت الآية الكريمة أن البحرين المذكورين فيها {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} والمرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، ولذلك لا توجد بين البحرين الملحين، منطقة حجرًا محجورًا على الكائنات الحية؛ لأن الاختلاف في درجة الملوحة ليس شديدًا ليكون مانعًا لانتقال الكثير من الأحياء البحرية من بيئة إلى بيئة أخرى.
ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا الحاجز الذي يفصل بين البحرين المذكورين، هو حاجز من قدرة الله لا يُرى، كما قال ابن الجوزي وغيره، وذلك بوضع عجز أكابر العلماء عن أن يُحيطوا بتفاصيل ودقائق ما ذكره القرآن، وصدق الله القائل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255).