أَما الأَوّل: فلا مدخل له ها هنا؛ لأَن التَّحْرِيمَ تَشْرِيعٌ كَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّشْرِيعُ لَيْسَ إِلا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ، اللَّهُمَّ إِلا أَن يُدْخِلَ مبتدعٌ رأْياً كَانَ مِنْ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ، أَو مِنْ أَهل الإِسلام؛ فَهَذَا أَمر آخَرُ يُجَلُّ السلفُ الصَّالِحُ عَنْ مِثْلِهِ؛ فَضْلًا عَنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَقَدْ وَقَعَ للمُهَلَّب (?) فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَا قَدْ يُشعر بأَن الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الأَول، فَقَالَ: التَّحْرِيمُ إِنما هُوَ لِلَّهِ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، فَلَا (?) يحلُّ لأَحد أَن يحرِّم شَيْئًا، وَقَدْ وَبَّخَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (?)، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الاعتداءِ. وَقَالَ: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا (?) تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (?). قَالَ: فَهَذَا كلُّه حُجَّة فِي أَن تَحْرِيمَ النَّاسِ لَيْسَ بشيءٍ.
وَمَا قَالَهُ المُهَلَّب يردُّه السبب في نزول الآية، وليس فيه ما يُشْعِرُ بهذا المعنى، وإنما نصّت الأسباب على التحريم بالمعنى الثالث (?) كَمَا تَقَرَّرَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدِّ المُحرِّمُ الحكمَ لِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ شأْن التَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الأَول، فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَى المحرِّمِ دُونَ غَيْرِهِ.
وأَما التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: فَلَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَن بَوَاعِثَ النُّفُوسِ عَلَى الشَّيْءِ أَو صوارفها (?) عنه لا تنضبط لقانون (?) معلوم، فقد يمتنع الإِنسان من الحلال لأَلَمٍ (?) يَجِدُهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، كَكَثِيرٍ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ مِنْ شُرْبِ الْعَسَلِ لوَجَعٍ يَعْتريه بِهِ، حَتَّى يحرِّمه على نفسه، لا بمعنى التحريم