الثَّانِي لَا يُعْرَفُ لَهُ سِوَى مَخْرَجٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ نَفَرٌ ذَوُو عَدَدٍ فَيَكُونُ الْمَصِيرُ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ إِذَا عُمِلَ بِهِ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْحُكْمِ الْمَعْمُولِ بِهِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُ هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ حِجَازِيًّا وَإِسْنَادُ الْآخَرِ عِرَاقِيًّا أَوْ شَامِيًّا، سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مَدَنِيَّ الْمَخْرَجِ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَمَجْمَعُ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَالْحَدِيثُ إِذَا شَاعَ عِنْدَهُمْ وَذَاعَ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ مَتُنَ وَقَوِيَ؛ وَلِهَذَا قَدَّمْنَا صَاعَهُمْ عَلَى صَاعِ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ، وَفِيهِمُ اسْتَقَرَّتِ الشَّرِيعَةُ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: " كُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوجَدُ لَهُ أَصْلٌ فِي حَدِيثِ الْحِجَازِيِّينَ وَاهٍ، وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الثِّقَاتُ ".
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ رَوَاهُ أَهْلُ بَلَدٍ لَيْسَ التَّدْلِيسُ مِنْ صِنَاعَتِهِمْ، وَالثَّانِي رَوَاهُ مَنْ يَرَى التَّدْلِيسَ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ لِمَا فِي التَّدْلِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَطَرِ، وَمَنْ لَا يَرَى بِالتَّدْلِيسِ بَأْسًا وَهُوَ فَاشٍ عِنْدَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ جَمِيعُهُمْ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ.
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِرَاقِيَّ الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُعَنْعَنٌ، وَالثَّانِي مُصَرَّحٌ فِيهِ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاتِّصَالِ
نَحْوُ: سَمِعْتُ وَحَدَّثَنَا، فَيُرَجَّحُ الْقِسْمُ الثَّانِي؛ لِاحْتِمَالِ التَّدْلِيسِ فِي الْعَنْعَنَةِ، إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ، وَكَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ: كُنْتُ إِذَا حَضَرْتُ مَجْلِسَ قَتَادَةَ لَمَحْتُ حَدِيثَهُ؛ فَمَا قَالَ فِيهِ: سَمِعْتُ وَحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا كَتَبْتُهُ، وَمَا قَالَ فِيهِ: " عَنْ " طَرَحْتُهُ.
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ جَمَعَ حَالَةَ الْأَخْذِ بَيْنَ الْمُشَافَهَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّانِي أَخَذَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَيُؤْخَذُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ وَأَبْعَدُ مِنَ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ، وَلِهَذَا لَمَّا اخْتُلِفَ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ هَلْ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا وَرَوَاهُ أَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا، كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى حَدِيثِ الْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا سَمِعَا مِنْهَا مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ.