ومنها قوله تعالى في سورة الجنّ: فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [ (?) ] ، فإن قوة هذا الكلام تقتضي أنهم انقادوا له وآمنوا بعد شركهم، وذلك يقتضي أنّهم فهموا أنّهم مكلّفون به، وكذلك كثير من الآيات التي في هذه السّورة التي خاطبوا بها قومهم.
ومنها قولهم فيها: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ [ (?) ] ، وكذا قولهم: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً [ (?) ] الآيات.
ومنها قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ (?) ] .
فهذه الآية تقتضي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم منذر بالقرآن كله من بلغه القرآن جنيّا كان أو إنسيّا، وهي في الدّلالة كآية الفرقان أو أصرح، فإن احتمال عود الضّمير على الفرقان غير وارد هنا، فهذه مواضع في الفرقان تدل على ذلك دلالة قوية، أقواها آية الأنعام هذه، وتليها آية الفرقان، وتليها آيات الأحقاف، وتليها آيات الرحمن، وخطابها في عدّة آيات: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وتليها سورة الجنّ، فقد جاء ترتيبها في الدلالة والقوة كترتيبها في المصحف، وفي القرآن أيضا ما يدلّ لذلك، ولكن دلالة الإطلاق اعتمدها كثير من العلماء في مباحث، وهو اعتماد جيد وهو هنا أجود، لأن الأمر بالإنذار، والمطلق إذا لم يتقيّد بقيد يدل على تمكن المأمور في الإتيان به في أي فرد شاء من أفراده وفي كلها، وهو صلّى اللَّه عليه وسلم كامل الشفقة على خلق اللَّه، والنصيحة لهم والدعاء إلى اللَّه تعالى، فمع تمكنه من ذلك لا يتركه في شخص من الأشخاص، ولا في زمن من الأزمان، ولا في مكان من الأمكنة، وهكذا كانت حالته- صلّى اللَّه عليه وسلم، ويعلم أيضا من الشريعة أن اللَّه تعالى لم يرده قوله: قُمْ فَأَنْذِرْ [ (?) ] مطلق الإنذار حتى يكتفي بإنذار واحد لشخص واحد، بل أراد التّشمير والاجتهاد في ذلك، فهذه القرائن تفيد الأمر بالإنذار لكل من يفيد فيه الإنذار، والجن بهذه الصّفة، لأنه كان فيهم سفهاء وقاسطون وهم مكلفون فإذا أنذروا رجعوا عن ضلالهم فلا يترك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دعاءهم، والآية بالقرائن المذكورة مفيدة للأمر بذلك فثبتت البعثة إليهم بذلك، ومنها كل آية فيها لفظ المؤمنين ولفظ الكافرين مما فيه أمر أو نهي ونحو ذلك فإنّ المؤمنين والكافرين صفتان لمحذوف، والموصوف المحذوف يتعيّن أن يكون النّاس بل المكلّفون أعمّ من أن يكونوا إنسا أو جنّا، وإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال بما لا يعدّ ولا يحصى من الآيات كقوله تعالى: