ولم يفُتْ أئمتنا المجتهدون إدراك الفوائد العظيمة لهذا العلم ومدى أهميته البالغة، فلذلك أصَّلُوا الأصول، وقعَّدوا القواعد في معرفة الأحكام الشرعية وكيفية استنباطها من أدلتها التفصيلية، فصنفوا في هذا العلم المصنفات ورتَّبوا أبوابه، وهذَّبوا مسائله، وحققوا مباحثه، ويسَّروا مسالكه، فبهذا رسموا لنا طريق الاجتهاد، وفتحوا باب البحث، فأصبح كل مجتهد يشير إلى دليل حكمه ويبيِّن وجه الاستدلال به وفق ضوابط أصولية محددة تحديدًا واضحًا ودقيقًا مبينة لمناهج استنباطهم.
ولا يُنكر فضل العلماء الذين بذلوا جهودًا مضنية وطاقاتٍ واسعة في خدمة الشريعة والعناية بعلومها بما تركوه لنا من ثروة علمية هائلة من الكتب العلمية، النافعة في شتى العلوم والفنون تعجُّ المكتبات وتزخر بها في مختلف الأمصار والأقطار، فلولا أن الله تعالى قيضهم للقيام بهذه المهمة الجليلة والعمل الجاد لما وصل إلينا شيء من هذه المصادر الأساسية التي منها الاقتباس وعليها المعول.
ولم يكن ما استنبطه العلماء من أحكام وليد الهوى والشهوة، ولا مدفوعًا بزيغ وانحراف، أو مصلحة شخصية أو مقصد مادي أو أدبي، وإنما كان وفق أسباب موضوعية علمية يعذر لمثلها المخطئ ويؤجر أجرًا واحدًا، ويُحمد المصيب ويؤجر أجرين فضلًا من الله ورحمة.
وضمن هذا المنظور فإن الإمام القاضي أبا الوليد سليمان بن خلف الباجي (المتوفي سنة 474 هـ) أحد قادة الفكر الأندلسي الذين بلغوا ذروة المجد العلمي والنبوغ الفكري في القرن الخامس الهجري، فقد ساهم في إثراء وتعزيز الثروة العلمية العظيمة بما تركه من آثار علمية قيِّمة، نافعة جليلة، جمعت بين الرواية والدراية، والمنقول والمعقول، فبرع في القرآن والحديث وعلومهما، والفقه وأصوله، والعربية وقواعدها، وعلم الكلام ومضايقه والعقليات وغوامضها، فكان خبيرًا بها، قادرًا على التأليف فيها.
ومن مصنفاته الأصولية كتابه الموسوم بعنوان (الإشارة في معرفة الأصول،