وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ومما يدل على ذلك علمنا بأن الصحابة -رضوان اللَّه عليهم- اختلفوا في مسائل كثيرة جرت بينهم فيها مناظرات مشهورة، ومراجعات كثيرة كاختلافهم في توريث الجَدّ مع الإخوة واختلافهم في الحرام والقَوْل في الظَّهَار (?) والعدة، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون في هذه الأحكام المختلف فيها نص لا يحتمل التأويل، أو ظاهر يحتمل التأويل، ولا يرد ذكر لحكمها جملة، وششحيل أن يكون فيها نص لا يحتمل التأويل أو ظاهر يحتمل التأويل, لأنه لو كان لسَارَعَ المخالف إليه الموافق له، وانقطع الخلاف، وثبت الإجماع على الحق، ويستحيل أن فيها نصًّا، فيذهب على جميعهم، لأن ذلك إجماع منهم على الخطأ، ولا يجوز هذا, ولو جاز ذلك لجاز أَيضًا أن يذهب عليهم شرائع وصلوات وصيام وعبادات قد نص عليها صاحب الشرع، وهذا باطل باتفاق المسلمين، ويستحيل أن يكون في ذلك دليل يحتمل التأويل, لأنه لو كان ذلك لوجب بمستقر العادة أن ينزع كل مخالف إلى الظاهر الذي تعلق به، وليس احتجاجه عليه، ولا يعدل عند المناظرة، ولا يحتج بالرأي والقياس, لأن المستدلّ والمحتج إنما يحتجّ بما ثبت عنده به الحكم، وقصد إثبات الحق إِلى ما ليس بدليل، ولا حجة عنده، ولا عند خَصْمِهِ ولمَّا رأينا كل واحد منهم احتجّ في ذلك بالرأي والقياس دون منكر ولا مخالف علمنا إِجماعهم على القول بصحّة القياس والرأي ومما يدل على ذلك إجماع الصحابة على أحكام كثيرة من جهة القياس والرأي، كإجماعهم على إِمامة أَبِي بَكْرٍ بالقياس، وإجماعهم على إمامة عثمان، وغير ذلك مما أجمعوا عليه، ومن ذلك خبر عُمَرَ بْنِ الخَطابِ -رضي اللَّه عنه- إذ خرج إلى "الشام" بأصحاب النبي -عليه السلام- فَلَمَّا بلغ "سرغ" بلغه أن الوباء نزل بالشام فاستشار الْمهَاجرين الأَوَّلين، فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: أرى ألا نفر من قَدَرِ اللَّه، ومنهم من قال: لا تقدَّم ببقية أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الوباء، ثم دعا الأنصار، فاختلفوا كاختلاف المهاجرين، ثم دعا مَنْ حضر من مَشْيَخَةِ قريش في مهاجرة الفتح، فلم يختلفوا عليه، وأمروه بالرجوع، ولم يكن أحد منهم ذكر في ذلك آية من كتاب اللَّه -تعالى- ولا حديثًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بل أشار كل واحد منهم برأيه، وما أداه إِليه اجتهاده، ولم ينكر عليه أحد فعله، وقال عمر رضي اللَّه عنه: إِني مصبح على ظهر