والدليل على ما نقوله إن العادة جارية بأنه لا يَجوزُ أن يسمع العدد الكثير والجمع الغفير الذين لا يصح عليهم التواطؤ على الكذب والتشاجر قولًا يعتقدون خطأه وبطلانه ثم يمسك جميعهم على إنكاره وإظهار خلافه بل كلهم يُسرع إلى ذلك ويسابق إليه.
فإذا ظهر قول وانتشر، وبلغ أقاصي الأرض، ولم يعلم له مخالف علم أن ذلك السكوت رضا منهم به وإِقرار عليه لما جرت به العادة، ولو لم يصح إجماع، ولا ثبتت به حُجّة إِلا بعد أن يروي الاتفاق على حكم الحادثة عن كل واحد، من أهل العلم في عصر الإجماع، لبطل الإجماع وبطل الاحتجاج به لاستِحَالة وجود ذلك في مسألة من مسائل الأصول والفروع، كما لا يُعْلَم اليوم اتفاق علماء عصرنا في جميع الآفاق على حكم حادثة من الحوادث بل أكثر العلماء لا يعلم بوجودهم في العالم.
إِذا اختلف الصحابة على قولين لم يَجُزْ إِحداث قول ثالث، هذا قَوْل كافَّة أصحابنا وأصحاب الشافعي.
وقال دَاوُدُ يجوز إِحداث قول ثالث، والدليل على ما نقوله إنهم إِذا أجمعوا على قولين فقد أجمعوا على أنَّ ما عدا القولين خطأ، وإِنما اختلفوا في تعيُّن الحقِّ في أحدهما, ولم يختلفوا في أن ما عداهما خطأ، فمن قال بغيرهما، فقد صوَّب ما أجمعت عليه الصَّحابة على أنه خطأ.
فَصْلٌ
يصحّ أن ينعقد الإجماع على حكم من جهة القياس في قول كافَّة الفقهاء.
وذهب ابْنُ خُوَيزِ منْدَاد إِلى أن ذلك لا يصح وجوده، ولو وجد لكان دليلًا.
وقال دَاوُدُ: لا يصحّ ذلك، وهذا مبني عنده على أن القياس ليس بدليل، وسيأتي الكلام على ذلك إِن شاء اللَّه.
قد ذكرنا أن أدلة الشَّرع على ثلاثة أضرب: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال الأصل.