وقال أَيضًا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 38].
وقال: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: الآية 89].
فخرج النص المستغنى عن البيان، وبقي الباقي، وعدمنا كونه تِبْيَانًا لجميع الأشياء كلها لفظًا ونصًّا على كل شيء منها، فثبت أنه تبيان لها بالنص والتنبيه، والقياس على المعنى من جملة التنبيه.
وأيضًا فإِنَّه لَمَّا جاز إثباته بالخبر الذي يصدر عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من جهة الأحاد من أحكام الشريعة، جاز إثباته بالقياس، ودليل ذلك غير الحدود والمقدَّرات، وكذلك الحدود والمقدَّرات.
وأيضًا فإِن الحوادث على ضربين مقدّر وغير مقدّر، ثم جاز أخذ ما ليس بِمُقَدَّر قياسًا، وكذلك المقدر؛ لأنه أخذ ركني الحوادث، ولأن في استعماله من طريق اللفظ والمعنى تكثر الفوائد، وهو أولى، وأيضًا فإن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- اختلفوا في جَلْدِ شارب الخمر في أيام عمر -رضي اللَّه عنه- حين استشارهم حتى قال عَليٌّ -رضي اللَّه عنه- وغيره من الصحابة: إِذا سَكِرَ هَذِيَ وإذا هذِيَ افتَرَى، فَنَرَى أن تَحِدّه حدَّ المفتري لما بيَّن.
فَقَبِلَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- ذلك منه، واتفقوا عليه فلمَّا أخذوا ذلك من جِهَة القياس والاسْتِنْبَاطِ دَلّ على أن القياس مدخلًا في ذلك بإجماع الصحابة.
فثبت ذلك، وصح إجماع الصحابة على ترك النكير على عُمَرَ وَعَلِيّ -رضي اللَّه عنهما- ولأنهم سوّغوا ما قالا وعملوا به جميعًا.
فإن قيل: فقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْرَؤُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَات" (?).
والقياس محتمل، فهو شبهة.
قيل له: ليس يعتبر فيه الاحتمال، ألا ترى أنه يجوز من جهة العموم خبر الواحد، وشهادة الشهود، وفي جميع ذلك من الاحتمال ما في القياس، فلم يكن شبهة، فسقط ما ذكروا.
فإن قيل: العقوبات مختلفة متفاوتة مع استوائها في المعنى، وأخذ ذلك قياسًا لا يجوز.