ويجوز تقليد الخَارِصِ فيما يخرصه، ويكفي في ذلك واحد، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعث ابْنَ رَوَاحَةَ على الخَرْصِ وحده، ويجوز تقليد الرَّاوي فيما يرويه إذا كان عدلًا، وكذلك الشاهد فيما يشهد به، إلا أن الشهادة باثنين عَدْلَيْن، والأخبار يقبل فيها الواحد العدل حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أُنْثى، ويجوز تقليد الطَّبيب فيما يرد إليه من علم الجراح وغيرها مما لا يعلم إلا من جهته للضرورة إِلَى ذلك، ويجوز تقليد الملاح إذا خفيت الدلائل في جهة القبلة على الذين يَرْكَبُون معه إِذا كان عدلًا، وكانت عادته جارية بسَيْره في الماء والبحار للضرورة إليه، وكذلك كل من كانت صناعته في الصحراء، يجوز تقليدهم في القبلة لمعرفتهم بها وأنه لا يمكن كل أحد تعاطيه ولا معرفته، وكذلك مَنْ هو في البادية يجوز تقليده في القبلة، إذا كان عارفًا بالصلاة، وكان عدلًا في باديته لمداومتهم مشاهدة جهة القبلة ودلائلها، والضرورة إليهم في ذلك عند خفاء دلائلها.
فأما تقليد العامِّي للعالم، فجائز عند مالك في الجملة. والأصل فيه قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: الآية 43] وأيضًا قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: الآية 83].
وهذا ما لا خلاف فيه نعلمه، واللَّه أعلم.
عند مالك -رحمه اللَّه- ليس لِعَامِّيِّ أن يقلَّد عامِّيًّا بوجه إلا في أشياء: منها رؤية الهلال إذا أراد به علم التاريخ فإنه يُقْبَل قوله وحده؛ لأنه خبر وإن كان مما يتعلق به فرض في دينه، مثل صوم رمضان والفطر منه، فلا بد من اثنين عَدْلَيْن؛ لأنه من باب الشهادات، وفي كلا الأَمْرَيْنِ الأخبار، والشهادات لا بد من العدالة.
ومن ذلك قَبُول الهدية بالرسول الواحد والإذن بالواحد لعُرْف الناس واستعمالهم، وجري عادتهم به، فهو يقبل من البالغ، وغير البالغ والذكر والأُنْثَى، والمسلم والكافر والواحد والاثنين، والحر والعبد، ويقبل قول القَصَّاب في الزكاة؛ لأن الإنسان يشتريه على الظاهر أنه زكى، فلو لم يخبره لما ضرّه، فهو يقبل من الذكر والأنثى، ومن مثله يذبح، والمسلم والكتابي، واللَّه أعلم.