726 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ سَمِعْتُ خَلَفَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْبُخَارِيَّ , -[159]- سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ هَارُونُ الْكَرَابِيسِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَفْصٍ قَالَ ـ قَالَ الشَّيْخُ: يَعْنِي أَبَاهُ ـ: قَالَ أَفْلَحُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي أَكْرَهُ الصِّفَةَ ـ عَنَى صِفَةَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا أَشَدُّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذَا نَطَقَ الْكِتَابُ بِشَيْءٍ جَسَرْنَا عَلَيْهِ، وَإِذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ الظَّاهِرَةُ تَكَلَّمْنَا بِهِ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْأَوْصَافَ الْخَبَرِيَّةَ، ثُمَّ تَكَلُّمُهُمْ بِهَا عَلَى نَحْوِ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ لَا يُجَاوِزُونَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ يُرَادُ بِهِ الْيَدُ وَالْكَفُّ عِبَارَةً عَنِ الْيَدِ، وَالْيَدُ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ بِلَا جَارِحَةٍ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ فَالْمُرَادُ بِذِكْرِهَا تَعَلُّقِهَا بِالْكَائِنِ الْمَذْكُورِ مَعَهَا، مِنَ الطَّيِّ وَالْأَخْذِ، وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَالْمَسْحِ، وَالْقَبُولِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ تَعَلَّقَ الصِّفَةِ الذَّاتِيَّةِ بِمُقْتَضَاهَا مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا مُمَاسَّةٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِحَالٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْقَبْضَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ يَكُونُ بِالْجَارِحَةِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ يُقَالُ: مَا فُلَانٌ إِلَّا فِي قَبْضَتِي. يَعْنِي: مَا فُلَانٌ إِلَّا فِي قُدْرَتِي. وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: الْأَشْيَاءُ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ. يُرِيدُونَ فِي مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى إِفْنَاءِ الشَّيْءِ وَإِذْهَابِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَبَضَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَفْنَاهُ وَأَذْهَبَهُ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا فَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا ذَاهِبَةٌ فَانِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِفْنَائِهَا وَقَوْلُهُ {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ، لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ طَيًّا بِعِلَاجٍ وَانْتِصَابٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْفِنَاءُ وَالذِّهَابُ. -[160]- يُقَالُ: قَدِ انْطَوَى عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ، وَجَاءَنَا غَيْرُهُ، وَانْطَوى عَنَّا دَهْرٌ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ وَالذِّهَابِ، وَقَوْلُهُ: {بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ، كَقَوْلِهِ: {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الروم: 28] يُرِيدُ بِهِ الْمِلْكَ، وَقَدْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] يُرِيدُ بِهِ ذَاهِبَاتٍ بِقَسَمِهِ، أَيْ أَقْسَمَ لَيُفْنِيَهَا، وَقَوْلُهُ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] أيْ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، أَيْ: أَخَذْنَا قُدْرَتَهُ وَقُوَّتَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: أَيْ لَأَخَذْنَا بِيَمِينِهِ، فَمَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] أَيْ عِرْقًا فِي الْقَلْبِ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْلُ الْقَلْبِ إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ.
727 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ قَالَ: قَالَ الْفَرَّاءُ: " الْيَمِينُ: الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] بِالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] يَقُولُ: كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا مِنْ قِبَلِ الدِّينِ. أَيْ تَأْتُونَنَا تَخْدَعُونَنَا بِأَقْوَى الْوُجُوهِ. قَالُوا: وَالْيَمِينُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَحْمُولٌ فِي بَعْضِهَا عَلَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَهُوَ مَا فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى وِفْقِ الْآيَةِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى حُسْنِ الْقَبُولِ، لِأَنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ أَيْمَانَهُمْ تَكُونُ مُرْصَدَةً لِمَا عَزَّ مِنَ الْأُمُورِ، وَشَمَائِلُهُمْ لِمَا هَانَ مِنْهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ عِنْدَنَا بِالْيَمِينِ، أَيْ بِالْمَحِلِّ الْجَلِيلِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
-[161]-[البحر الوافر]
أَقُولُ لِنَاقَتِي إِذْ بَلَّغَتْنِي ... لَقَدْ أَصْبَحْتِ عِنْدِي بِالْيَمِينِ
أَيْ بِالْمَحِلِّ الْجَلِيلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» . فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّمَامَ وَالْكَمَالَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحِبُّ التَّيَامُنَ وَتَكْرَهُ التَّيَاسُرَ لِمَا فِي التَّيَاسُرِ مِنَ النُّقْصَانِ وَفِي التَّيَامُنِ مِنَ التَّمَامِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «لِيسَ فِيمَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ صِفَةِ الْيَدَيْنِ شِمَالٌ لِأَنَّ الشِّمَالَ مَحَلُ النَّقْصِ وَالضَّعْفِ، وَقَدْ رُوِيَ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْيَدِ عِنْدَنَا الْجَارِحَةَ، إِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيفُ، فَنَحْنُ نُطْلِقُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ وَلَا نُكَيِّفُهَا، وَنَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ انْتَهَى بِنَا الْكِتَابُ وَالْأَخْبَارُ الْمَأْثُورَةُ الصَّحِيحَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ» . قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: «فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ» . فَمَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ: فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ