ينبت في فصل الربيع فإن بعض النبات حلوة في فم الدابة وهي حريصة على أكله لكن ربما تأكل كثيراً فيحصل بها داء من كثرة الأكل فتموت من ذلك الداء أو تقرب، فإن لم تأكل الدابة إلا بقدر ما يطيقه كرشها فتأكل وتترك الأكل حتى ينهضم ما أكلت وحتى تبول وتروث روثاً وتحصل لها خفة من خروج الروث والبول منها فلا يضرها الأكل فكذلك من يحصل له مال كثير فإن الحص على المال وتكثير الأكل والشرب والتجمل فيقسو قلبه وتتكبر نفسه ويرى نفسه أفضل من غيره ويحتقر الناس ويؤذيهم ولا يخرج حقوق المال من الزكاة وأداء الكفارات والنذور وإطعام السائلين والأضياف وحقوق الجار فمن كانت هذه صفته لا شك أن المال شر له ويبعده عن الجنة ويقربه من النار ومن أدى حقوق المال ولا يحتقر الناس ولا يفتخر عليهم ولا يشتغل بجمع المال بحيث يفوت عنه طاعة ويحسن إلى الناس فماله خير له كما قال عليه السلام: " نعم المال الصالح للرجل الصالح " فإذا عرفت هذا فقد عرفت أن الخير والشر لا يحصل للرجل من المال بل نفس الرجل التي هي تصرف المال فيما فيه خير له أو شر له، قاله المظهري وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال " وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تعالى يقول: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك ". وحكي أن رابعة العدوية رضي الله عنها كانت تقول " لكل يوم ليلة وهذه ليلتي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح وتقول للنهار كذا فلا تنام حتى تمسي. وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة، وصام ابن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، ولم يضع سليمان التيمي جنبه عشرين سنة. وصلى عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، ولزم الغزالي الأنقطاع ووظائف أوقاته على وظائف الخير بحيث لا يمضي لحظة منها إلا في طاعة من التلاوة والتدريس والنظر في الأحاديث خصوصاً البخاري، وإدامة الصيام والتهجد ومجالسة أهل القلوب إلى