وَعَلَوْتُ جِلَالَهُ، وَأَوْسَعْتُ مَجَالَهُ، فَاغْتَنَمَ الْحَمْلَةَ وَمَرَّ كَالنَّبْلَةِ، يَسْبِقُ الرِّيحْ، وَيَقْطَعُ عَرْضَ الْفَسِيحْ حَتَّى أَشْرَفَ بِي عَلَى وَادْ وَشَجَرٍ مِنْ شَجَرِ عَادْ مُورِقَةٍ مُونِقَةٍ، قَدْ تَهَدَّلَ أَغْصَانُهَا كَأَنَّمَا بَرِيرُهَا حَبُّ فُلْفُلٍ، فَدَنَوْتُ فَإِذَا أَنَا بِقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ , بِيَدِهِ قَضِيبٌ مِنْ أَرَاكٍ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ وَهُوَ يَتَرَنَّمُ بِشِعْرٍ، وَهُوَ:
يَا نَاعِيَ الْمَوْتِ وَالْمَلْحُودِ فِي جَدَثٍ عَلَيْهِمُ مِنْ بَقَايَا بَزِّهِمْ خِرَقُ
دَعْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمًا يُصَاحُ بِهِمْ فَهُمْ إِذَا أُنْبِهُوَا مِنْ نَوْمِهِمْ فَرِقُوا
حَتَّى يَعُودُوا لِحَالٍ غَيْرِ حَالِهِمُ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا مِنْ قَبْلِهِ خُلِقُوا
مِنْهُمْ عُرَاةٌ وَمِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِمُ مِنْهَا الْجَدِيدُ وَمِنْهَا الْمَنْهَجُ الْخَلَقُ
قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، وَإِذَا بِعَيْنٍ خَرَّارَةٍ، فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، وَمَسْجِدٍ بَيْنَ قَبْرَيْنِ، وَأَسَدَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَلُوذَانِ بِهِ، وَيَتَمَسَّحَانِ بِأَثْوَابِهِ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْبِقُ صَاحِبَهُ إِلَى الْمَاءِ فَتَبِعَهُ الْآخَرُ وَطَلَبَ الْمَاءَ، فَضَرَبَهُ بِالْقَضِيبِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَقَالَ: ارْجِعْ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ حَتَّى يَشْرَبَ الَّذِي وَرَدَ قَبْلَكَ. فَرَجَعَ , ثُمَّ وَرَدَ بَعْدَهُ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَانِ الْقَبْرَانِ؟ فَقَالَ: هَذَانِ قَبْرَا أَخَوَيْنِ لِي كَانَا يَعْبُدَانِ اللَّهَ تَعَالَى مَعِي فِي هَذَا الْمَكَانِ، لَا يُشْرِكَانِ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَأَدْرَكَهُمَا الْمَوْتُ فَقَبَرْتُهُمَا، وَهَأَنَا بَيْنَ قَبْرَيْهِمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِهِمَا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدِّمُوعِ، فَانْكَبَّ عَلَيْهِمَا وَجَعَلَ يَقُولُ:
خَلِيلَيَّ هُبَّا طَالَمَا قَدْ رَقَدْتُمَا أَجَدَّكُمَا لَا تَقْضِيَانِ كَرَاكُمَا
أَلَمْ تَرَيَا أَنِّي بِسَمْعَانَ مُفْرَدٌ وَمَالِيَ فِيهَا مِنْ خَلِيلٍ سُوَاكُمَا
مُقِيمٌ عَلَى قَبْرَيْكُمَا لَسْتُ بَارِحًا طَوَالَ اللَّيَالِي أَوْ يُجِيبُ صَدَاكُمَا
أُبَكِّيكُمَا طُولَ الْحَيَاةِ وَمَا الَّذِي يَرُدُّ عَلَى ذِي عَوْلَةٍ إِنْ بَكَاكُمَا
أَمِنْ طُولِ نَوْمٍ لَا تُجِيبَانِ دَاعِيًا كَأَنَّ الَّذِي يَسْقِي الْعَقَارَ سَقَاكُمَا
كَأَنَّكُمَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ غَايَةٍ بِرُوحِي فِي قَبْرَيْكُمَا قَدْ أَتَاكُمَا
فَلَوْ جُعِلَتْ نَفْسٌ لِنَفْسٍ وِقَايَةً لَجُدْتُ بِنَفْسِي أَنْ تَكُونَ فِدَاكُمَا