ووجه الاستدلال من هذه الآيات أنها استعملت في غير ما وضعت له أولا في أصل الوضع، فقوله "جناح الذل" الجناح حقيقة للطائر من الأجسام، والمعاني والجمادات لا توصف به، فإثباته للذل مجاز قطعا، والسؤال لأهل القرية، وليس لها، فهو مجاز بالحذف، والجدار لا إرادة له، إذ الإرادة حقيقة، من خصائص الإنسان أو الحيوان، وإنما هو كناية عن مقاربته الانقضاض لأن من أراد شيئا قاربه فكانت المقاربة من لوازم الإرادة، فتجوز بها عنها (?).
ثانيا: أدلة المانعين من وجود المجاز، ومناقشتهم للمجيزين.
سأورد هنا أدلة المانعين للمجاز سواء في اللغة أم في القرآن وحده أم في القرآن والسنة لتقاربها، وتلافيا للتكرار وفي ثناياها مناقشة المخالف ومنها:
(أ) أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز لم يقع إلا في كلام المتأخرين، فهو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة، ولم يتكلم في ذلك أحد من الصحابة والتابعين، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم من أئمة المذاهب، وغيرهم، بل ولا تكلم فيه أئمة اللغة والنحو المعتبرون.
(ب) أن الذين أطلقوا كلمة المجاز من علماء السلف لم يعنوا بها ما هو قسيم الحقيقة، فأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر ابن المثنى في كتابه "مجاز القرآن"، ولكنه لم يعن بالمجاز ما يقابل الحقيقة وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية.
وقال الإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية" في قوله تعالى "إنا" و"نحن" ونحو ذلك في القرآن، هذا من مجاز اللغة، ومراده رحمه الله بذلك أن هذا مما يجوز استعماله في اللغة، ولم يرد أنه مستعمل في غير ما وضع له.
(جـ) أن الذين قالوا بالتقسيم مطالبون بالدليل لكون الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان، ثم بعد ذلك استعملت فيها، ثم تجوز بها عن ما وضعت له ولن يستطيعوا ذلك، لأنه ليس بإمكان أحد أن ينقل عن العرب أنه اجتمع جماعة،