إن الجزء الأول من هذا المقطع وهو الآيات الخمس الأولى فصلت فيه سورة النساء ولكن قوله تعالى من هذه الآيات الخمس لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* هو الذي أخذ الحيز الأكبر من السورة. فالسورة وضحت التقوى وما يدخل فيها، في مقاطعها كلها.
ولئن جاءت مقدمة سورة البقرة لتعرض صفات المتقين فههنا عرفنا التقوى من خلال الأمر والنهي، وتأتي سورتا المائدة والأنعام لتفصلا ما لم يفصل في سورة
النساء، أو تقول: إن المقطع المشار إليه في سورة البقرة فيه ثلاثة موضوعات متداخلة مترابطة، فجاءت سورة النساء لتفصل موضوعا، ثم سورة المائدة لتبين ما بعده، ثم سورة الأنعام لتبين الموضوع الأخير. وللإشعار بالتداخل وبوحدة المقطع، اجتمع في سورة النساء ما له صلة ببدايته وخاتمته.
وكما أن المقطع في سورة البقرة مرتبط بالمعاني الموجودة في مقدمتها لأنه يمثل الطريق إلى التحقق بصفات الفئة الأولى المذكورة فيها، والتحرر من صفات الفئتين الأخيرتين.
فسورة النساء هكذا. فالمعاني القرآنية يكمل بعضها بعضا، ويبني بعضها على بعض، فالسورة تفصل في محور وفي روابط المحور وفي امتدادات المحور.
ومن كان يتابع ما كتبنا حتى الآن أصبح باستطاعته أن يدرك الشئ الرئيسي الذي نلح عليه في هذا التفسير ويدرك أننا على بصيرة في سيرنا بفضل الله عزّ وجل.
ونحن لا نشك أن ما اتجهنا إليه في هذا التفسير في موضوع الوحدة القرآنية لا زال غامضا، ولا زالت أدلته غير واضحة، ولكنا كذلك لا نشك أن قارئ هذا التفسير من بدايته إلى نهايته سيتكامل معه صرح الأدلة حتى لا يشك أبدا في صحة ما اتجهنا إليه إن شاء الله.
ونحب أن نستبق الأدلة فنقول: هل للصدفة محل في هذا الكون الذي هو صنع الله؟
حتما الجواب لا:
هذا ما يقوله كل مؤمن، وعندئذ يأتي السؤال الثاني: هل هناك شئ في هذا الكون ينفك عن الحكمة؟ والجواب حتما: لا فإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للكون المخلوق، فما بالك بالقرآن الذي هو كلام الله، لا شك أن كل حرف في محله، وأن كل كلمة في محلها وأن كل آية في محلها، وأن كل سورة في محلها، وأن كل شئ فيه في محله لفي غاية الحكمة، والله وصف كتابه بالحكمة فهذا الكتاب الحكيم بكل ما فيه لا تنتهي