الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
هذا جزء جمعت فيه الأشعار التي عُقد فيها شيء من الأحاديث والآثار، سميته بالازدهار. وله فوائد: منها الاستدلال به على شهرة الحديث في الصدر الأول وصحتها، وقد وقع ذلك لجماعة من المحدّثين. ومنها إيراده في مجالس الإملاء. ومنها الاستشهاد به في فن البديع: في أنواع العقد والاقتباس والانسجام.
قال المعافى بن زكريا في كتاب الجليس والأنيس: حدثنا محمد بن يحيى الصولي، حدثنا محمد بن سعيد، حدثني أبو ثمامة القيسي، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، قال: رأيت أبا نواس عند روح ابن القاسم، فتحدث روح عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلّم: القلوب جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. قال يزيد: فقال أبو نواس: أنت لا تأنس بي، وسأجعل هذا الحديث منظوماً بشعر. قلت: فإن قلت ذلك فجئني به، فجاءني فأنشدني:
يا قلب رفقاً أجِدّاً منك ذا الكلفُ ... ومن كلفتُ به جافٍ كما تصفُ
وكانَ في الحقّ أن يهواك مجتهداً ... بذاك خبَّرَ منا الغابر السلف
إنَّ القلوب لأجنادٌ مجنَّدةٌ ... لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تناكر منها فهو مختلف ... وما تعارفَ منها فهو مؤتلف
أخرجه ابن عساكر.
وأخرج الشيرازي في الألقاب، والحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد، والحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق عن محمد ابن شجاع الأحمر، قال: دخلت على أمير المؤمنين المتوكل وبين يديه نصر بن علي الجهضمي، فجعل نصر يحضّ المتوكل على الرفق، ويمدح الرفق ويوصي به، فالتفت المتوكل إلى يحيى بن أكثم القاضي فقال له: أنت يا يحيى حدثتني عن محمد بن عبد الوهاب، عن سفيان، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: من حُرِم الرفق حُرِم الخير. ثمَّ أنشأ يقول:
الرفق يمنٌ والأناةُ سعادةٌ ... فاستأنِ في رفقٍ تلاقِ نجاحا
لا خير في حزمٍ بغير رويّةٍ ... والشّكُّ وهنٌ إن أردتَ سراحا
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن النضر بن شميل قال: كنا نأتي يونس بن حبيب النحوي فنسأله عن غريب الحديث، فحدثته بهذا الحديث، فقلت: حدثنا طلحة بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا أبا هريرة، زُر غبّاً تزدد حُبّاً. فأنشدنا يونس بن حبيب في هذا المعنى:
أغْبِبْ زيارتك الصَّدي ... ق يراك كالثوب استجدّه
إنَّ الصَّديق يملّه ... ألاّ يزالَ يراك عنده
وقال:
أقلَّ زيارة الأحبا ... ب تزدد عندهم قربا
فإنَّ المصطفى قد قا ... ل زر غبّاً تزدد حبّا
وأخرج الشيرازي في الألقاب من طريق أبي محمد بن عبد الرحمن بن حمزة بن عمرو بن أعين الخزاعي قال: حدثني أبي عن جدي أنه سمع قتيبة بن مسلم الباهلي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: زر غبّاً تزدد حبّاً. قال أبو محمد: قال جدي عمرو بن أعين بيتاً في هذا المعنى:
إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً ... وإن شئت أن تزداد حبّاً فزر غبّا
وأنشد ثعلب في أماليه:
رأيت النَّاس من ألقى ... عليهم نفسه هانا
فزر غبّا ولا تَرْشُن ... وإن ذُرِّعت أحزانا
وقال آخر:
تثقّلُ بالزّيارة كلّ يومٍ ... وتحسب أن شخصك لا يُملّ
وقال العسكري في الأمثال: قد أخذ هذا الحديث غير واحد من الشعراء فقالوا في معناه، أنشدنا أبو بكر بن دريد:
عليك بإغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى البحر مسلكا
فإنِّي رأيت الغيثَ يُسأمُ دائماً ... ويُسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
وقال آخر:
وقد قالَ النَّبيّ وكانَ بَرّاً ... إذا زرت الحبيب فزره غبّا
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عدي بن حاتم الطائي قال: كنت عند علي بن أبي طالب، إذ وردت عليه رقعة من عثمان بن عفان بخطّه:
تجنَّى عليَّ يقارضَني ذنبا ... وأبدي عتاباً فامتلأت له عُتبى
فلو لي قلوب العالمين بأسرها ... لما تركت لي من معاتبةٍ قلبا