الملحمة القديمة ألفت لتنشد فإن الملحمة الأدبية إنما ألفت لتقرأ، فالتأثير فيها صادر عن الفكرة وعن طريقة عرضها، ومن ثم كان مؤلفها حريصًا على تماسك الموضوعات التي يطرقها بحيث تقوى الفكرة. ومثال الملحمة الأدبية ملحمة "الفردوس المفقود" لملتن1.
وإذا كانت البطولة في الإلياذة لشخصية خارقة هي شخصية أخيل، فإن البطولة في الفردوس المفقود قد تمثلت في جانب آخر، ربما كان أقوى، هو جانب الفكرة. إنها تمثل بطولة الصراع في ميدان الحياة بين الخير والشر؛ ولذلك كانت شخصية "آدم" فيها أعنف من شخصيات الملاحم السابقة2.
ومما يؤسف له أننا لا نستطيع هنا أن نتحدث عن الملحمة في الشعر العربي؛ لأن المحقق -حتى الآن- أن هذا النوع الأدبي لم يوجد ولم توجد فكرته عند شاعر عربي معروف، وإن كان من الواجب أن نلتفت هنا إلى أن السير الشعبية قد تضمنت قدرًا كبيرًا من الشعر، يؤدي -إلى حد بعيد- دور الملحمة "الهوميروسية". وقد ورد على سبيل المثال في قصة عاد الأوسط التي رواها عبيد بن شرية الجرهمي 694 بيتًا من الشعر، في حين يروي وهب بن منبه في كتابه "التيجان" كثيرًا من الشعر على لسان أناس عاصروا تُبّعًا، وكان لهم دور في قصته.
وهذا الشعر كله إنما يروي فيه تُبع سيرة حياته كاملة، غزواته وفتوحاته، معاركه وانتصاراته، ممزوجة كلها بتأملاته وآرائه. كما نلمح في هذا الشعر ما يلقي الأضواء على معارف العرب في عصرهم بالنجوم والشعوب والصناعات، نلمح أيضًا عاداتهم وتقاليدهم في السلم والحرب3، وكل هذه الظواهر تمثل الصور التي تمثلت في الملحمة، وكل ما هناك من فارق هو أن مؤلف "الإلياذة" معروف لنا -برغم ما قد يثار أحيانًا حول شخصيته من شكوك- في حين أننا نجهل حتى الآن مؤلف تلك الأشعار العربية، وهو فارق -بعد- ليس جوهريًّا.
وأما "البالاد" فقصة أقصر من قصة الملحمة، وهي تحفظ وتنشد "وربما كان الأغلب عليها في الأيام الأولى أن تغنى" في جلسة واحدة. وهي تتناول مغامرة أو