وجزالته؛ ولكنه يملأ هذا الإطار بروحه وبشخصيته، وكأنها خاتم يطبع على كل مأثور له اسمه. ومن هنا يأخذ مكانته في الشعر العربي الحديث، فقد رد إليه متانته ورصانته، وفرض عليه نفسه وبيئته وعصره؛ بحيث أصبح شعرًا حيًّا يصور منشئه وقومه تصويرًا بارعًا.

ويستطيع القارئ أن يقرن ما قدمناه عن حياة البارودي الخاصة والعامة إلى ديوان فسيراها مرسومة فيه رسمًا دقيقًا بكل جزئياتها وتفصيلاتها، فحياته الأولى قبل الثورة العرابية وما ارتبط بها من نعيم العيش ورغده مصورة أوضح تصوير، فهو يصف لهوه ومرحه ومُتعه، كما يصف بيئته المصرية وما فيها من مشاهد الطير والأشجار والنبات، وله في ذلك طرائف كثيرة؛ كقوله في القطن وهو على سوقه:

القطن بين مُلوِّز ومنور ... كالغادة ازدانت بأنواع الحلَى1

فكأن عاقده كُرات زمرد ... وكأن زاهره كواكب في الروَا2

دبت به روح الحياة فلو وهت ... عنه القيود من الجداول قد مشى3

فأصوله الدكناء تسبح في الثرى ... وفروعه الخضراء تلعب في الهوا4

لم يَسْرِ فيه الطرف مذهب فكرة ... محدودة إلا تراجع المنى5

ويشترك في حروب الدولة العثمانية فيصف وقائعها وصفًا دقيقًا تسعفه مخيلة ماهرة في التقاط المرئيات، وعاطفة حماسية ملتهبة. وبذلك يعيد لنا فن الحماسة القديم الذي عَفَّى عليه الزمن؛ إذ ينفخ فيه حياة وروحًا جديدة.

وكان في قرارة نفسه يستشعر مجد آبائه المماليك الذين حكموا مصر، كما كان يستشعر مجد وطنه وما كشف علم الآثار المصرية من هذا المجد،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015