واضطُر إسماعيل أن يستجيب لهذه الروح الجديدة؛ فأنشأ الحياة النيابية. وفي هذه الأثناء كانت تُطْبَع دواوين الشعر القديم، فاطلع المصريون على نماذج لم يكونوا يألفونها؛ إذ تخالف في جملتها النماذج التي كانوا يعرفونها، فقرءوا لشعراء العصر العباسي وما سبقه من عصور، وأمعنوا في ذلك حتى العصر الجاهلي. ولا بد أنهم التفتوا إلى أن الشعر العربي -وخاصة في منابعه الأولى- كان شعرًا طبيعيًّا يصور حياة أصحابه تصويرًا دقيقًا، فالشاعر في العصر الجاهلي مثل امرئ القيس وفي العصر الإسلامي مثل جرير كان يمثل حياة قبيلته تمثيلًا دقيقًا، فهو مرآة صافية نقية لها يسجل حوادثها ومفاخرها ومحامدها وكل ما يتصل بها، وهو في العصر العباسي مرآة صافية أيضًا تعكس كل ما في العصر من حياة، ولا تحول أعشاب البديع دون هذه الغاية، فهي وسيلة لا أقل ولا أكثر؛ ولكن حدث بعد ذلك أن اضطربت الغاية من تمثيل القبيلة والعصر، وأصبحت الوسيلة هي الغاية، فغاية الشاعر -وخاصة منذ العصر العثماني- أن يعبر عن لون من ألوان البديع.

فكان اطلاع المصريين على النماذج القديمة المغرقة في القدم سببًا في انصرافهم عن الصورة السقيمة التي انتهى إليها الشعر في موطنهم. ورشح لذلك اطلاعهم على الآداب الأجنبية وخلو الشعر فيها من هذه الأثقال البديعية التي تفسد المعاني في أغلب الأمر، والتي تقف حائلًا بين الشاعر وبين التعبير الحر عن عصره ونفسه. وكان ذلك وما يتصل به من وقوف المصريين على حياة الأوربيين العلمية وحياتهم المادية دافعًا إلى تغير ذوقهم، فلم يعد ذوقًا متخلفًا؛ بل أصبح ذوقًا حيًّا تغذيه وترقيه الآداب الأجنبية. وكلما تعمقنا أو سرنا مع الزمن ازداد اتصالنا بالأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث، فمن جهة كثر طبع الدواوين العباسية وغير العباسية، ومن جهة أكثرنا من المدارس والبعوث إلى الغرب، ونما اتصالنا به لا عن طريق التعليم والبعوث فحسب، فقد نزلت بلادنا -وخاصة منذ فتح قناة السويس- طبقات من الأوربيين شاركت في حياتنا الثقافية بما فتحت من مدارس كما شاركت في حياتنا الاقتصادية والمادية، حتى أصبحت طائفة منا متحضرة تحضرًا أوربيًّا خالصًا، وخاصة صاحب القصر ومن اتصلوا به.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015