وكانت مصر حينئذ ترزح تحت كابوس الاحتلال الإنجليزي، الذي كان يضيق الخناق على أبنائها، فكانوا يشعرون بغير قليل من اليأس والبؤس. والتأم في نفس المنفلوطي بؤس أمته ببؤس نفسه، فتحول بوقًا لهذا البؤس يبكي في كتاباته ويَئِن.

ولم يكن يعرف لغة أجنبية، فكانت ثقافته ضيقة؛ ولكنه عكف على المترجمات يقرأ فيها ويوسِّع آماد فكره بكل ما يستطيع من قوة. وكان فيه طموح، فرأى أن يترجم بعض القصص والمسرحيات الغربية، ولكن أنَّى له وهو لا يحسن الفرنسية ولا غيرها من اللغات الأوربية، إلا أن ذلك لم يقف دونه، فقد طلب إلى بعض أصدقائه أن يترجموا له بعض آثار القوم الأدبية، ينقلونها هم أولًا، ثم ينقلها هو إلى أسلوبه الرصين.

ويظهر أنه عرَّفهم ما يريد؛ لأننا نجد ما يُتَرْجَمُ له من آثار المذهب الرومانسي الذي كان يُعْنَى أصحابه بالفضيلة والعدالة والانتصار للفقراء ونقد الأغنياء في أسلوب مليء بالانفعال العاطفي. وكانت طريقة المنفلوطي أن يأخذ ما تُرْجم له، ويمصِّره تمصيرًا، ويعطي لنفسه في ذلك حرية واسعة، حتى لكأنه يعيد كتابته وتأليفه من جديد، وهو تأليف يقوم على الاسترسال الإنشائي والانطلاق الوجداني والوعظ الأخلاقي. ومن القصص التي أعاد تأليفها على هذا النحو قصة بول وفرجيني لبرناردين دي سان بيير وسماها الفضيلة، وقصة ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون لألفونس كار وقصة الشاعر أوسيرانودي برجراك لأدمون روستان، وفي سبيل التاج لفرنسوا كوبيه. وبهذا الأسلوب من حرية التصرف والتحوير الواسع مصَّر طائفة من القصص القصيرة لبعض الكتاب الفرنسيين، ونشرها في كتابه "العبرات" بعد أن أضاف إليها بعض قصص من تأليفه، وجميعها قصص حزينة باكية.

ومن غير شك أفسد هذه القصص الفرنسية بتمصيره؛ إذ أحالها عن أصلها، وكأنه ظن القصة مجموعة من المقالات في غير حبكة، ومن ثم أدخل في هذه القصص تغييرًا واسعًا وهو تغيير لم يستطع إحكامه؛ إذ كانت تنقصه موهبة القصاصين،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015