شيئًا مما يقوله شيخه، فقد رآه يبدأ بكلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" البسيطة السهلة، فلا يفهمها كما هي؛ بل يثير مع الكفراوي شارح الكتاب بعض المشكلات حولها، فهي تعرب على تسعة أوجه، ويأخذ الشيخ في توجيه هذه الإعرابات قبل أن يعرف الطلاب شيئًا عن النحو وعن تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف.
وضاق محمد عبده بهذه الطريقة العقيمة في التعليم، ورجع إلى قريته، فزوجه أبوه، وحاول أن يرجعه إلى سيرته في التعليم الديني. وصدع لأمر أبيه وأعدَّ عدة الرحيل، ولكن بدلًا من أن يذهب إلى طنطا ذهب إلى أخوال أبيه، وكانوا يقيمون في قرية قريبة من قريته. وتصادف أن كان بينهم شخص يسمى "درويش خضر" تقلب في البلاد حتى وصل إلى ليبيا، وهناك تعرَّف على الشيخ السنوسي وتلقَّى عنه تعاليمه، وهي تلتقي إلى حد كبير مع تعاليم الوهابية. وأنس محمد عبده لهذا الخال المتصوف أو هذا الشيخ، وأخذ يقرأ معه بعض رسائل صوفية، وجد فيها القبس الذي كان يفتقده.
وتبدل محمد عبده بتأثير هذا الشيخ من صبي عابث إلى فتى جاد، يحس إحساسًا عميقًا كأن عليه رسالة في الحياة: أن يَهْدي الناس إلى الطريق المستقيم في الدين. ورحل إلى طنطا، فتلقى على الشيوخ بها بعض الدروس، ولم يلبث أن تحول إلى الأزهر، يعب من علومه الدينية واللغوية. وفي نهاية كل عام كان يعود إلى بلدته، فيجد الشيخ درويش في انتظاره؛ لينفخ في روحه. وكان واسع الأفق، فكان يسأله: هل تعلمت المنطق؟ هل تعلمت الحساب والهندسة؟ وكان في الأزهر عالم عظيم من علمائه يسمى الشيخ حسن الطويل يُعْنَى بإلقاء محاضرات في الفلسفة والهيئة، فانتظم محمد عبده بين تلاميذه.
وتصادف أن نزل مصر سنة 1871 السيد جمال الدين الأفغاني، يحمل في صدره وعلى لسانه دعوته للنهوض بالإسلام والمسلمين ضد الاستعمار والمستعمرين، وكانت مصر قد أخذت تتحرك، وأخذ الرأي العام فيها يتكون، وأخذ الناس يشعرون أن حقوقهم مسلوبة، سلبها إسماعيل وأسرته، وكانت مساوئ السياسة