ولم يكن للمصريين عهد لا بالمطبعة ولا بما تطبع من منشورات وكتب وصحف، فكان ذلك كله جديدًا عليهم.
وقد ظن المصريون حين أقلعت الحملة عن ديارهم أنهم يبدءون تاريخًا جديدًا لأمة مجاهدة متحررة، فاختاروا محمد علي واليًا عليهم؛ ولكنه لم يَجْرِ معهم إلى آخر الشوط الذي كانوا يحلمون به؛ إذ نكَّل بمن اختاروه منهم. وقد أقام -مثل نابليون- مجموعة من الدواوين، سلبها حقوقها، فقضى بذلك على آمال المصريين ومطامحهم في اشتراكهم مع الحكام في حكم أنفسهم وتدبير شئونهم.
وهو إن كان قد حطم آمال المصريين في هذا الاتجاه، فإنه بعثها في اتجاه آخر؛ إذ عُنِيَ بالجيش، وأراد أن يكون مثل جيوش الدول الكبرى عُدة واستعدادًا، فاضطُر اضطرارًا إلى الاستعانة بالأساليب الأوربية والمعلمين الأوربيين. وكانت مصر قد تهيأت لتفتح صدرها للعلم الأوربي، ووجد طريقه إلى المدارس التي أُنشئت من حربية وصناعية وهندسية وطبية. ولما كان المعلمون في هذه المدارس من الفرنجة، وكان لا بد للمصريين أن يحسنوا اللغات الأجنبية ليفهموا عنهم؛ وُجدت الحاجة إلى مدرسة الألسن وإلى بعوث ترسل إلى الغرب؛ حتى يتقن المصريون اللغات الغربية، وأنشئ في أثناء ذلك كثير من المدارس الابتدائية والثانوية.
وكل هذا ساعد فيه محمد علي ليوجد جيشًا قويًّا لنفسه، يحقق به أحلامه في إمبراطورية ضخمة، فلم يكن غرضه التعليم من حيث هو، أو رد الحياة العلمية الخصبة إلى مصر من حيث هي؛ وإنما كان غرضه شخصيًّا لنفسه ولأحلامه، فلما لم تتحقق أحلامه انصرف عن التعليم، وأغلق ابنه عباس المدارس من بعده. ولكن الصلة بين مصر وأوربا أو بين الحياة العقلية المصرية والحياة العقلية الأوربية قامت، ولم يعد من الممكن أن يُقْضَى عليها لسببين؛ هما:
أولًا: وجود طائفة من العلماء المصريين الذين بُعثوا إلى أوربا، وعادوا ليثبِّتوا حركة المزج