وَالْأَصْلُ فِي تَفَاوُتِ هَذَا صَفَاءُ الْمَدَارِكِ وَاخْتِلَافُ الْمَسَالِكِ، فَالْقُلُوبُ تَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَتَرْجِيعَ الْأَلْحَانِ فَيُحَرِّكُهُمْ طَرَبُ الطِّبَاعِ، وَمَا عِنْدَهُمْ ذَوْقٌ مِنْ الْوَجْدِ فِي السَّمَاعِ، وَالْخَوَاصُّ يُدْرِكُونَ بِصَفَاءِ مَدَارِكِهِمْ أَرْوَاحَ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ الْمَعَانِي، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْإِيهَامُ الْبَرَّانِيُّ يَتَعَجَّبُ مِمَّا يَسْمَعُ مِنْ الْقَوْمِ، وَقَدْ قَالَ الْوَاجِدُ:
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلَامَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: النَّاظِرُ إلَى الْقَوْمِ مِنْ خَارِجِ حَالِهِمْ يَتَعَجَّبُ دَهْشًا، وَالْمُلَاحِظُ يَذُوقُ الْمُنَاسَبَةَ يَتَلَظَّى عَطَشًا، كَمَا قَالَ الْقَوَّالُ:
صَغِيرُ هَوَاكِ عَذَّبَنِي ... فَكَيْفَ بِهِ إذَا احْتَنَكَا
وَمُرَادُ ابْنِ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ أَيْ: الصَّادِقُ مِنْهُمْ وَمَدْحُ حَالِهِ لَا هَذِهِ الْحَالُ هِيَ الْغَايَةُ.
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا حَدَّثَ بِحَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ زَفَرَ زَفْرَةً وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ ثَانِيَةً ثُمَّ ثَالِثَةً ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ. وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَلِمْتُ حَدَثَ لَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ: لَمَّا رَأَيْنَا الشَّرِيعَةَ تَنْهَى عَنْ تَحْرِيكَاتِ الطِّبَاعِ بِالرَّعُونَاتِ، وَكَسَرَتْ الطُّبُولَ وَالْمَعَازِفَ، وَنَهَتْ عَنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَالْمَدْحِ وَجَرِّ الْخُيَلَاءِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ يُرِيدُ الْوَقَارَ دُونَ الْخَلَاعَةِ، فَمَا بَالُ التَّغْيِيرِ وَالْوَجْدِ، وَتَخْرِيقِ الثِّيَابِ وَالصَّعْقِ، وَالتَّمَاوُتِ مِنْ هَؤُلَاءِ