قُلُوبِهِمْ وَمَنَعَهُمْ الْعَمَلَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَصُونَ الْعِلْمَ وَلَا يَبْذُلُهُ وَلَا يَحْمِلُهُ إلَى النَّاسِ خُصُوصًا إلَى الْأُمَرَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا ... رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ لَزِمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي ... وَلَا كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي ... لِأَخْدِمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَذَلُّوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
وَأَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْحُضُورَ إلَيْهِ لِأَجْلِ مَسْأَلَةٍ وَقَعَتْ لَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ حَمَّادُ إنَّا أَدْرَكْنَا الْعُلَمَاءَ وَهُمْ لَا يَأْتُونَ أَحَدًا، فَإِنْ وَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ فَأْتِنَا فَاسْأَلْنَا عَمَّا بَدَا لَكَ. وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ وَفِيهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ جَاءَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مَالِي إذَا نَظَرْتُ إلَيْكَ امْتَلَأْتُ رُعْبًا؟ فَقَالَ حَمَّادُ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: «إنَّ الْعَالِمَ إذَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللَّهِ هَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكْثِرَ بِهِ الْكُنُوزَ هَابَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» وَالْقِصَّةُ طَوِيلَةٌ وَفِيهَا أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِيُقَسِّمَهَا وَيُفَرِّقَهَا.
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
إذَا شِئْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا ... عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ
فَسَلْ نَفْسَكَ الْإِنْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا ... عَلَيْكَ وَإِرْفَاقًا إلَى زَمَنِ الْيُسْرِ
فَإِنْ فَعَلَتْ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ ... فَكُلُّ مَنُوعٍ بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ