«أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ، أَوْ عَلَى أَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَقَالَ فِيهِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا لِأَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ» حَتَّى نَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] .
قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَلْعَنْ الْمُعَيَّنَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ لَعْنَةَ الْفَاسِقِ الْمُعَيَّنِ عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّعْزِيرِ، فَقَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِانْتِصَارِ أَيْضًا، وَمَنْ يُرَجِّحُ الْمَنْعَ مِنْ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ، فَقَدْ يُجِيبُ عَمَّا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَحَدِ أَجْوِبَةٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا بِأَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ كَلَعْنِ مَنْ لَعَنَ فِي الْقُنُوتِ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَإِمَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَرَحْمَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعْنَةِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِاجْتِهَادِهِ بِالتَّعْزِيرِ فَجَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ دَافِعًا عَمَّنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: اللَّعْنُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَقَدْ يَكُونُ اطَّلَعَ عَلَى عَاقِبَةِ الْمَلْعُونِ، وَقَدْ يُقَالُ: الْأَصْلُ مُشَارَكَتُهُ فِي الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْعَنُ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِمَا قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ، أَوْ شَتَمْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ لَعَنَهُ بِمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَدْرَكَ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ، وَالِاسْتِدْرَاكُ بِهَذَا الدُّعَاءِ يَدْفَعُ مَا يَخَافُهُ مِنْ إصَابَةِ دُعَائِهِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ، إذْ هُوَ بِاجْتِهَادِهِ الشَّرْعِيِّ مَعْصُومٌ لِأَجْلِ التَّأَسِّي بِهِ.
وَقَدْ يُقَالُ: نُصُوصُ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لِلظَّالِمِ كَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ اللَّعْنَةَ هِيَ الْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ مِنْ الْعَذَابِ بِمَا يَكُونُ مُبْعِدًا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَاللَّعْنَةُ أَوْلَى أَنْ تَجُوزَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْ لَعْنِ مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يُلْعَنُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَرْحُومٌ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ.