وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي أَبِي الْهَيْثَمِ لَا يُعْرَفُ. وَقَدْ رَوَى خَبَرَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - آثَرُوا فِرَاقَ نُفُوسِهِمْ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهَذَا يَقُولُ: زَنَيْت فَطَهِّرْنِي، وَنَحْنُ لَا نَسْخُو أَنْ نُقَاطِعَ أَحَدًا فِيهِ لِمَكَانِ الْمُخَالَفَةِ.
وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: وَأَمَّا السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ، وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ، بَلْ تُرْفَعُ قِصَّتُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً؛ لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطَمِّعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ، أَمَّا مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ، فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ وَمَنْعُهُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا، فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ.
وَأَمَّا جَرْحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا يَحِلُّ السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُسْتَرُ فِيهِ: هَذَا السَّتْرُ مَنْدُوبٌ فَلَوْ رَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَأْثَمْ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ هَذَا الْأَوْلَى وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَإِذَا لَمْ يَأْثَمْ بِرَفْعِ فَاعِلِ مَعْصِيَةٍ انْقَضَتْ فَرَفَعَ مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهَا ابْتِدَاءً مِثْلَهُ، أَوْ أَوْلَى وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ وَلِمَا يَأْتِي. وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فِيهَا هَتْكُ سَتْرِ الْمَفْسَدَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، أَوْ كَانَ فِي السَّتْرِ مَفْسَدَةٌ، وَإِنَّ الْأَحَادِيثَ فِي السُّنَنِ تُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ، وَلَا تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى أَحَدٍ