وَإِنْ احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى الْعَوَامّ بَخِلُوا فَإِنْ أَعْطَوْا تَضَجَّرُوا وَمَنُّوا. وَقَلَّ مَنْ رَأَيْنَاهُ يُنَافِقُ، أَوْ يُرَائِي، أَوْ يَتَوَاضَعُ لِصَاحِبِ دُنْيَا إلَّا لِأَجْلِ الدُّنْيَا. وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى كُلِّ مِحْنَةٍ، قَالَ بِشْرٌ الْحَافِيُّ: لَوْ أَنَّ لِي دَجَاجَةً أَعُولُهَا خِفْت أَنْ أَكُونَ عَشَّارًا عَلَى الْجِسْرِ:
فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَجْمَعَ هَمُّهُ لِيُقْبِلَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِقَلْبٍ فَارِغٍ مِنْ الْهَمِّ وَبَعْدُ فَإِذَا صَدَقَتْ نِيَّةُ الْعَبْدِ، وَقَصْدُهُ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَفِظَهُ مِنْ الذُّلِّ وَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] .
وَيَأْتِي كَلَامُ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ ثُلُثَيْ الْكِتَابِ فِي إخْرَاجِ الْمَالِ وَالْكَرَمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِ السِّرُّ الْمَصُونُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ سِبَاقِ وَتَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي عِلْمٍ وَعَمَلٍ زَادَتْ الْمَرْتَبَةُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، انْتَهَبَ الزَّمَانَ، وَلَمْ يُضَيِّعْ لَحْظَةً وَلَمْ يَتْرُكْ فَضِيلَةً تُمْكِنُهُ إلَّا حَصَّلَهَا، وَمَنْ وُفِّقَ لِهَذَا فَلْيَبْتَكِرْ زَمَانَهُ بِالْعِلْمِ، وَلْيُصَابِرْ كُلَّ مِحْنَةٍ وَفَقْرٍ، إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يُرِيدُ، وَلْيَكُنْ مُخْلِصًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَامِلًا بِهِ حَافِظًا لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْإِخْلَاصُ فَذَاكَ تَضْيِيعُ زَمَانٍ وَخُسْرَانُ الْجَزَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْعَمَلُ بِهِ فَذَاكَ يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِ وَالْعِقَابَ لَهُ، وَإِمَّا جَمَعَهُ مِنْ غَيْرِ حِفْظٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ مَا كَانَ فِي الصُّدُورِ لَا فِي الْقِمْطَرِ.
وَمَتَى أَخْلَصَ فِي طَلَبِهِ دَلَّهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَى أَنْ قَالَ: وَلْيَبْعُدْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ مَهْمَا أَمْكَنَ خُصُوصًا الْعَوَامَّ، وَلْيَصُنْ نَفْسَهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ فَرُبَّمَا وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي مَكَان لَا يَسْمَعُ فِيهِ أَصْوَاتَ النَّاسِ، وَلْيُزَاحِمْ الْقُدَمَاءَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ مُنْتَهِبًا الزَّمَانَ فِي كُلِّ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَارٌّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الْعَيْشِ مَعَهُ، وَعِنْدَهُ وَإِنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا أَيَّامُ سَفَرٍ صَبَرَ