فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ، بَلْ يُصَوِّرُ كُلَّ مَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ، فَكَمْ مِنْ مُخَاصِمٍ سَبَّ وَشَتَمَ وَطَلَّقَ، فَلَمَّا أَفَاقَ نَدِمَ، وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ يَزْهَدُ وَدَفَنَ كُتُبَهُ فَلَمْ يَصْبِرْ عَنْ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ فَغَلِطَ فَضَعَّفُوهُ، وَقَدْ تَزَهَّدَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَخْرَجُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ احْتَاجُوا فَدَخَلُوا فِي مَكْرُوهَاتٍ، وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يَقْدِرُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفًا فَتَزَهَّدَ، وَفَرَّقَهَا فَنَزَلَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فَبَعَثَ إلَى بَعْضِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا يَطْلُبُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ يَا شِبْلِيُّ: اُطْلُبْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَطْلُبُ الدُّنْيَا مِنْ خَسِيسٍ مِثْلِك، فَبَعَثَ إلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ بَعَثَ إلَيْهِ اتِّقَاءَ ذَمِّهِ فَقَدْ أَكَلَ الشِّبْلِيُّ الْحَرَامَ، وَقَدْ تَزَهَّدَ أَبُو حَامِدٍ الطُّوسِيُّ، وَأَقَامَ سِنِينَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فَبَنَى دَارًا كَبِيرَةً وَغَرَسَ بُسْتَانًا. فَمِثْلُ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ الْمُخْرِجِ لِمَالِهِ كَمُعِيرٍ لِبَاسَهُ، كَمِثْلِ مَاءٍ عُمِلَ لَهُ سَكْرٌ فَإِنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْجَرَيَانِ، ثُمَّ يُعْمَلُ فِي بَاطِنِ السَّكْرِ إلَى أَنْ يَنْقُبَ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رَأَى شُبَّانًا قَدْ تَنَسَّكُوا يَقُولُ: الْمَوْتُ الْمَوْتُ جَاءَهُمْ، خَوْفًا مِنْ تَغْيِيرِ حَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ مُخْرِجُ الْمَالِ فِي حَالِ الْغِنَى إذَا لَمْ يَحْسِبْ وُقُوعَ الْفَقْرِ.
وَقَدْ رَأَيْنَا أَبَا الْحَسَنِ الْغَزْنَوِيَّ وَقَدْ بَنَى لَهُ رِبَاطًا بِبَغْدَادَ وَوُقِفَتْ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ فَكَانَ يَقُولُ: يَدْخُلُ لِي فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّ مِائَةِ دِينَارٍ فَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِي وَلِأَوْلَادِي، وَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِأَهْلِ الرِّبَاطِ، وَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِلْمَجْلِسِ، فَكَانَ يُعْطِي الْعُلَمَاءَ وَالْقُرَّاءَ وَالزُّهَّادَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ أَحَدٌ حَتَّى إنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّيْنِيِّ، فَبَعَثَ إلَيْهِ خِلْعَةً قَبْلَ الْعِيدِ وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِيمَنْ يُفْطِرُ عِنْدَهُمْ فَحَدَّثَنِي الْحَاجِبُ أَنَّهُ حَمَلَهَا إلَيْهِ فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ، قَالَ: فَقَبَّحْت لَهُ هَذَا وَبَالَغْت حَتَّى قَبِلَ عَلَى مَضَضٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: عُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسَةُ آلَافِ دِينَارٍ فَدَفَعْتهَا بِهَذِهِ الْأَصَابِعِ الْخَمْسِ، وَقُلْت: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَكَانَ يَظُنُّ دَوَامَ مَا هُوَ فِيهِ فَاتَّفَقَ مَوْتُ السُّلْطَانِ