ثم قال المعترض: وصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه خرج إلى زيارة قتلى أحد وإلى بقيع الغرقد. وهذا الأمر لا ينكره من أئمة النقل أحد. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلّم استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، وأجيب في ذلك لما سأله. فعلام يحمل هذا القائل زيارته لقبر أمه ومشيه الذي منه صدر؟ فإن حمله على التحريم فقد ضلّ وكفر، وإن حمله على الجواز والندب فقد لزمته الحجة والتقم الحجر.
يقال: هذا الكلام مبنيّ على افترائه المتقدم، وهو أن المجيب يحرّم زيارة القبور مطلقا، وقد تقدم أن هذا افتراء عليه، بل هو يجوّز زيارة قبور المؤمنين للدعاء لهم والاستغفار، ويجوز زيارة قبر الكافر للرقة والاعتبار؛ كزيارة النبي صلى الله عليه وسلّم قبر أمه.
ثم يقال له: أولا: النبي صلى الله عليه وسلّم لم يسافر لزيارتها بل ذلك في طريقه لما فتح مكة.
ويقال له: من أين لك أنه مشى إلى قبر أمه؟ وإن كان المشي جائزا فإنه إنما زارها في طريقه في السفر، وكان راكبا وقبرها كان بارزا، فعله لما نزل عنده، وقبرها كان بالأبواء، بل نزل عنده لم يحتج إلى المشي إليه، ولكن هذا لا خبرة له بالنصوص كيف قيلت، ولا بتفصيل أفعال النبي صلى الله عليه وسلّم.
ويقال له: هذه الزيارة ليست من جنس زيارة قبور الأنبياء والصالحين التي يقصد بها التبرك بهم، ودعاؤهم والاستشفاع بهم، فإن هذا لا يجوز أن يقصده النبي صلى الله عليه وسلّم بزيارة أهل البقيع وقتلى أحد، فكيف بقبر أمه؟
بل هذه الزيارة للرقة والاعتبار، وهذه جائزة ما زال المجيب يجوّز هذه وأمثالها، وهذا مذكور في عامة كتبه وفتاويه، معروف عنه عند كل من يعرف ما يقول في هذا الباب. وليس في جواب الفتيا المتنازع فيها نهي عن هذا، ولا حكاية النهي فيها عن أحد.
والحديث قد رواه مسلم في صحيحه من وجهين عن أبي هريرة، قال في أحدهما: «استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي». وقال في الآخر: زار النبي صلى الله عليه وسلّم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال صلى الله عليه وسلّم:
«استأذنت ربّي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها؛ فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت». وهذه الزيارة كانت عام الفتح في سفره.