فصل [كلام المصنف على حديث النهي عن شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة]

وأما قوله: «إن الزيارة إذا كانت جائزة فالوسيلة إليها جائزة فيجوز السفر».

فيقال له: هذا باطل؛ فليس كل ما كان جائزا أو مستحبا أو واجبا جاز التوسل إليه بكل طريق، بل العموم يدّعى في النهي، فما كان منهيا عنه كان التوسل إليه محرما، ومن هذا سد الذرائع. وأما ما كان مأمورا به فلا بدّ أن يكون له طريق، لكن لا يجب أن يجوّز التوسل إليه بكل طريق، بل لو توسّل الإنسان إلى الطاعة بما حرّمه الله؛ مثل الفواحش، والبغي، والشرك به، والقول عليه بغير علم؛ لم يجز ذلك. فلو أراد أن يفعل فاحشة وزعم أنها تفضي إلى طاعة؛ لم يكن له ذلك. وكذلك لو أراد أن يشرك بالله ببطانه ويقول عليه ما لم يعلم، نعم يجوز أن يقول بلسانه ما لا يعتقده عند الإكراه، وأن يستعمل المعاريض عند الحاجة.

وإتيان المساجد للجمعة والجماعة من أفضل القربات وأعظم الطاعات، وهو إما واجب أو سنة مؤكّدة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة» (?). ولو أراد مع هذا أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة ليصلّي هناك جمعة أو جماعة؛ لم يكن هذا مشروعا، بل كان محرّما عند الأئمة والجمهور، ولو نذر ذلك لم يوف بنذره عند أحد من الأئمة الأربعة وعامة علماء المسلمين، وليس فيه إلا ما حكي عن الليث بن سعد، مع أن لفظه مجمل. بل ولا يجوز أن يوفي بنذره عند الأكثرين، كما قاله مالك وغيره، لقوله: «لا تشدّ الرحال» وقوله في الحديث الصحيح: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (?). وقد اتفق العلماء على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، وإن كان صاحبه يعتقد أنه نذر طاعة، كما لو نذر ذبح نفسه أو ولده، لكن تنازعوا فيما إذا نذر ذبح ولده؛ هل عليه ذبح كبش أو كفارة يمين أو لا شيء عليه؟ على ثلاثة أقوال مشهورة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015